«مام» جلال يريد أن يتذكر.. دعوه!

TT

قبل أيام نقلت وكالة (مهر) الإيرانية عن الرئيس العراقي جلال طالباني قوله: «أنا لا أخطط للاستمرار رئيسا. نهاية هذا العام ستنتهي ولايتي وآمل أن أتقاعد. سأعود إلى بيتي وسيكون لدي الوقت لكتابة مذكراتي».

قد تبدو هذه المهمة سهلة بالنسبة لـ«مام» جلال، قياسا بمراحله السياسية الصعبة طيلة حياته الصاخبة، فهو لن يفعل سوى الاسترخاء في منزله الصيفي، الجميل، كما أخبرني صديق زار منزل الرئيس، على ضفاف سد دوكان وبحيرته بالقرب من السليمانية، معقل طالباني وحزبه: الاتحاد الوطني الكردستاني.

في هذه الأجواء، تبدو المهمة سهلة وهينة وممتعة، لكن إذا ما شرع الزعيم العراقي، المعروف بحنكته السياسية، وروحه المرحة، في كتابه مشوار حياته، والذي تحتل السياسة معظمه، فإنه سيلج غابة متشابكة من الاختيارات والحسابات وربما سيغرق قلمه في بحيرة الحبر الأسود وهو يسرح نظره في زرقة بحيرة دوكان.

بشكل عام، كتابة السيرة الذاتية امتحان صعب للنفس وللقارئ، وإجهاد عسير للذاكرة التي تختار، هي، لا صاحبها، ما يرسخ وما ينمحي من الأحداث، خصوصا إذا ما كانت الأحداث التي يتناولها المرء غير موثقة ولا مسجلة في ورق أو تسجيل صوتي أو مرئي، ومعظم حياة الأشخاص هي هكذا، أحداث متلاحقة آخذة برقاب بعضها، وربما لا يدري المرء أن هذا الحدث الذي مر بحياته سيكون له تلك الأهمية لاحقا. هذا شيء، والشيء الآخر، حتى لو كان الحدث موثقا بورق أو تسجيل، فإن هذا لا يحل المشكلة لأن التوثيق هو مجرد تسجيل لـ«رأس قلم» الموضوع وليس استغراقا له ولا مسحا لجزئياته ولا إحاطة به من كل جوانبه، حتى بالنسبة لصاحب السيرة نفسه، ومن هنا ربما تكون الوثيقة، إذا ما تم الاعتماد عليها لوحدها في بناء صورة الحدث، ربما تكون مضللة، أو في أحسن الأحوال، معطية لجزء من الصورة، والجزء غير الكل، الجزء «كينونة» أخرى، غير كينونة الكل.

أذكر أنني كنت حاضرا في ندوة للناقد ومحقق التراث والأكاديمي الفلسطيني الشهير الدكتور إحسان عباس في مناسبة ثقافية بالعاصمة الأردنية عمان أواخر التسعينات وكانت شمس عمر الشيخ الثمانيني تؤذن بالغروب وهو يتوكأ على عصاه بابتسامة شيخ وقور، سأله أحد الحضور عن كتب السيرة الذاتية في العالم العربي، فأجاب وهو يضحك ضحكة خفيفة: «يقال إن نصف الحقيقة كذب!»، وأضاف: «أغلبنا في العالم العربي لا يقدر على كتابة سيرته بشكل كامل وحقيقي، فلذلك نكتب بشكل انتقائي متعمد، وهذا يعني أننا لا نكتب الحقيقة كاملة بل نختار منها ما نريد، ولم يشذ عن ذلك في العالم العربي إلا قلة مثل المغربي محمد شكري في (الخبز الحافي)، وقد جلبت عليه ما جلبت».

شيخ المحققين إحسان عباس الذي توفي 2003 أصدر سيرته الذاتية الشهيرة «غربة الراعي» التي أتت بعد الحوار المستوعب والثري لسيرة وفكر إحسان عباس مع الناقد السعودي المعروف علي العميم وقد نشر على عدة حلقات في جريدة «الشرق الأوسط» في شهري مايو (أيار) ويونيو (حزيران) من سنة 1995.

وللقارئ أن يحكم هل قال عباس الحقيقة أو نصفها أو فوق ذلك أو دونه.

كان الدكتور إحسان عباس يتحدث بشكل عام عن كتابة السيرة الذاتية، فكيف يكون الحال لو كانت هذه السيرة سياسية بالدرجة الأولى أو سيرة تتناول الجوانب الفكرية والاجتماعية؟ مؤكد أن مستوى «التشذيب» والتهذيب والنحت سيكون أعلى وأكثر، خصوصا في منطقتنا العربية هذه.

بعض الساسة ـ أو من ألقت بهم المقادير في دهاليز السياسة مثل المغربية مليكة أوفقير ـ في منطقتنا كتب سيرته السياسية، ولكن وحسب ما أمكننا قراءته لهم أو ما قرأنا من مراجعات عن كتبهم في الصحف، لا نجد شيئا يشعر المرء بأنه أمام كتاب سيرة سياسية صريحة وأمينة وواثقة، ومع أن فن «المذكرات» كما يرى بعض النقاد العرب هو فن حديث ودخيل على عالم الكتابة العربية، فإن ذلك ليس عذرا في عدم إجادة هذا الفن، فالمسرح والسينما والصحافة، كلها فنون دخيلة علينا من الغرب أيضا، ومع ذلك وجدنا في هذه القوالب إضافات قيمة ومؤثرة، إذن فعذر الوفادة الأجنبية ليس كافيا لمعرفة لماذا كتب السيرة السياسية ضعيفة في عالمنا العربي. حتى نكون منصفين ودقيقين فلا بد من الإشارة إلى أن هناك تفاوتا بالمجتمعات العربية في كمية ونوعية المذكرات والسير السياسية، سواء التي كتبها أصحابها مباشرة أو كُتبت عنهم من خلال باحثين آخرين، وسواء كان كاتب السيرة ينقل مباشرة من صاحب السيرة أو هو، أي كاتب السيرة، يقوم ببحثه وعمله عن صاحب السيرة بعد وفاته، سواء كان هذا الشكل أم ذاك، فلا يمكن أن نقارن المجتمع السعودي ـ مثلا ـ بالمجتمع المصري، فالأخير أغزر وأكثر صخبا وتنوعا، ومكتبة السير والمذكرات لدية غنية، قياسا بالمكتبة السعودية، ولكن هذا لا يمنع من القول بأنه، ومن حيث الإجمال، هناك ضعف عام في إمداد مكتبة السيرة الذاتية السياسية في العالم العربي، وهذا عائد بالدرجة الأولى، كما أظن، إلى فقدان الانطلاق والحرية والتدفق في الكتابة من قِبل صاحب السيرة بسبب التحسب والحذر، المبالغ فيه أحيانا، بل كثيرا!

كتابة صاحب السيرة لسيرته لا يعني إغلاق الراوية وإقفال الموضوع، والختم بشمع أحمر على كتاب التاريخ.. بالعكس إنه يعني إغناء التاريخ بتعديد روايته، فالشخصيات والأحداث العظيمة هي التي يُكتب عنها كثيرا، وكل الروايات والشهادات يكمل بعضها بعضا، وبعضها يصحح بعضها، أما الكف عن الكتابة في هذه الميادين وإحجام أصحاب التجارب والعمل السياسي في العالم العربي عن الكتابة فإنه يترك المجال للتخرص وتلفيق الروايات والأحداث من أجل تعبئة الفراغ وسد الثغرات في التسلسل التاريخي والأحداث.

هذا هو المعارض الكويتي الأشهر أحمد الخطيب، صاحب النفس القومي، كتب سيرته «الكويت من الدولة إلى الإمارة» من خلال الإملاء على الدكتور غانم النجار، وذكر فيها محطات كثيرة وساخنة في تاريخ العمل السياسي الكويتي، وصدرت ردود ومناقشات وتعقيبات وتصحيحات، بل وتكذيبات له من قِبل مخالفين، وكان المستفيد من هذا كله هو التاريخ والقارئ والمكتبة الكويتية السياسية والعربية، فلا الخطيب قلب الدنيا ولا من تحدث عنهم صاروا سيئين.

سعد زغلول، السياسي المصري الأشهر، قبل عبد الناصر، كتب عنه المؤرخ المصري عبد العظيم رمضان سلسلة عن سيرته بدأت منذ عام 1987 و صدرت في عدة أجزاء.

وتُعتبر مذكرات زغلول من أهم المذكرات السياسية لكونها مذكرات كتبها زغلول بشكل شبه يومي ولاستخدامه الشخصي، وليست للنشر، وبالتالي فهي ليست «ذكريات»، أي مثل تلك التي كتبها معظم الساسة العرب بعد انتهاء الحدث وبأعصاب باردة. من هنا تأتي أهمية مذكرات سعد زغلول، التي لم يكتب فيها عن معاركه السياسية فحسب بل لم يستنكف أن يكتب فيها عن أوقات أزماته المالية، وخلافاته الزوجية، وحتى لعبه القمار (محمد عفيفي مجلة المجلة/ أغسطس (آب)/ 2007).

يمر بخلدي أطياف شخصيات سياسية كثيرة في عالمنا العربي، خصوصا في جزيرتنا العربية، كم تمنيت لو كتبوا سيرهم أو مذكراتهم أو أملوها على «محترف» حتى نرى بوضوح: ماذا صار؟ وكيف قادتنا الأيام إلى ما نحن عليه؟

لا أريد أن أسمي الشخصيات السياسية التي تمنيت لو كتبوا سيرهم أو أملوها على «محترف» لضيق المجال وصعوبة التسمية، ولكن كم تمنيت لو قرأت لمن صنعوا تاريخنا منذ حوالي مائة وخمسين عاما، ونقلب مذكراتهم وسيرهم بشكل حقيقي، كما سيكون ذلك مفيدا ومؤثرا وصادما أو مفرحا... لأيهم.

أخيرا: سيدي الرئيس جلال طالباني، أتمنى أن تفي بوعدك وتكتب مذكراتك، بكل ما يمكنك، من الصدق والوضوح، لعلك بذلك تسنّ سنّة حسنة للمترددين من السياسيين العرب، وإن كنت أظن المهمة عليك ستكون مثل، أو أصعب، من سنوات عملك الطويل في غابة السياسة.. وأذكرك، ومثلك لا يذكَّر بهذا، ببيت شاعر العراق العظيم معروف الرصافي:

وما كُتُبُ التاريخِ في جُلِّ ماروَتْ

صحائفُها إلا حديثٌ منمَّقُ

بَصُرْنا بأمرِ الحاضرينَ فرابنا

فكيفَ بأمرِ الغابرينَ نصدِّقُ؟!