المصالحة العربية «الحقيقية»!

TT

بحكم المهنة كمدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية في القاهرة؛ فإن أجهزة الإعلام المختلفة كثيرا ما تأتي سائلة عن الأحوال المصرية والعربية، ومن أسئلتها يمكن استشفاف اتجاه رئيسي في تساؤلات الرأي العام. وخلال الأسبوع الماضي كان اجتماع الرياض والمصالحة العربية بين مصر وسوريا والسعودية هي الحدث الأهم الذي تدور حوله الأسئلة والتي كان أول ما يأتي فيها أيا من كان السائل عربيا أو أجنبيا، ينتمي إلى الإعلام المكتوب أو المسموع أو المرئي، هو هل المصالحة العربية «حقيقية»؟ وكان السؤال يأتي ليس كما هو الحال مع كل الأسئلة الأخرى، وإنما محملا بنوع من «التخابث» الواضح، حيث تستبعد إمكانية المصالحة، وحيث تكثر كل عناصر عدم الثقة، أو يتم استدعاء الماضي، حيث استحكم العداء وتمت الخصومة. ولا بأس أن يأتي السؤال بطريقة فيها الكثير من التأكيد على ما ليس هو معلوماً على وجه الدقة، فيرفع السائل صوته مع الضغط على الحروف حينما يذكر كلمة «حقيقية»، ولا بأس من أن يغمز بعينه دليلا على أن الموضوع كله ومن أوله إلى آخره فيه خدعة ما أو أن له صفة مؤقتة تجعله غير ذي بال أو لا بأس من حيرة في أحوال العرب الذين ما أن يتصالحوا فإنهم يجرون للعداء، وما أن يتخاصموا فإنهم يبحثون عن المصالحة.

وردا على كل هؤلاء، فإن إجابتي كانت بادئة بالتحفظ على المصطلحات فليس ضمن ما هو سائد في تاريخ العلاقات الدولية استخدام المصالحة أو Reconciliation إلا في حالات العداء المسلح حيث التناقضات على أشدها، ومن بعدها تدرك الأطراف أنه لا بد من التفاهم على طريقة للتعايش المشترك، ومثل ذلك ليس موجودا بين الدول العربية المعنية. وعلى جانب آخر، فإن تعبيرا مخففا يجري تداوله وهو «تنقية الأجواء» العربية وهو مستعار من علوم الطقس حيث تثور عواصف ترابية أو رملية تعلق آثارها في الهواء، ويكون من باب مصلحة البشر تنقية هذه الأجواء أو إزالة ما جرى من تلوث، حتى

«تعود المياه إلى مجاريها» وذلك تعبير آخر لوصل ما انقطع. وكل ذلك لم يكن عاكسا لما كان عليه الحال بين الدول العربية التي اجتمعت في الرياض لأنه كانت هناك خلافات محددة، بعضها كان له علاقة بلبنان أو فلسطين فيما يخص خلاف سوريا مع كل من مصر والسعودية، حيث تعارضت السياسات والمصالح. ولكن أكثر التعبيرات الملتبسة فإنه متعلق بما هو حقيقي وما هو زائف، حيث يصعب تحديد الخط الفاصل ما بين المصالحة الحقيقية من المصالحة الزائفة، خاصة لو كان السائل يعني بالحقيقية أن تنتقل العلاقة بين البلدان العربية من حالة الخصومة والخلاف إلى حالة الوحدة الشاملة والتماثل في السياسات والعلاقات الدولية والإقليمية. فالفكر السياسي العربي في العموم لا يعرف كثيرا المساحات المتاحة بين الأضداد، أو التعامل مع المناطق الرمادية ما بين الأبيض والأسود، ومثلها بين كل ألوان الطيف، وكما يقال كافة درجات السلم الموسيقي.

هذا القدر غير القليل من الالتباس في المصطلحات لا يبقي لدينا، وكان ذلك جزءا من الإجابات التي شرحتها، إلا التعامل مع قمة الرياض على أساس ما هو معروف في العلاقات بين الدول، حيث تتعدد المصالح وتتباين وأحيانا تتحول إلى تناقضات تدفع الأطراف بعيدا عن بعضها حتى تصل إلى مرحلة الخصومة، أو أنه ـ على العكس ـ يجري إدراك هذه الحقيقة وأحيانا يتم السعي إلى التقريب والتقارب. فمن الناحية الموضوعية البحتة، فإن الأطراف التي اجتمعت في الرياض تتباين في المساحة والثروة وحالة التركيب الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وحتى الثقافي، والأكثر من ذلك فإنها على مسافات مختلفة من مصادر متعددة للتهديد، وتختلف في وسائل وطرق تقييم هذه التهديدات. وكانت المشكلة العربية على الدوام هي تجاهل كل هذه الأمور وإخضاعها للفكرة القومية العربية التي تجعل الرابطة الثقافية اللغوية العربية تتفوق على كل الاعتبارات الأخرى وتخضعها لها إلى الدرجة التي جعلت كل أشكال «التعاون» بين الدول العربية صعبة المنال لأن كثرة من العرب لا يقبلون أقل من الوحدة والاتحاد والتطابق والتماثل وما عدا ذلك يدخل في ظل أشكال مختلفة من الخيانة، أو الخروج عن الصف القومي، أو عدم الاعتبار بالشارع العربي أو الجماهير العربية.

وكان من نتائج ذلك كله أن العلاقات العربية ـ العربية افتقدت وسائل الدعم السياسي الذي يساعدها على التغلب على تناقضاتها أو اختلافاتها. وكانت أبرز الأزمات العربية هي أن يقوم طرف عربي بالدخول في واحد من المآزق التاريخية بالحرب أو بأزمات مستحكمة ثم بعد ذلك يطلب من بقية الدول العربية المنشغلة بأمور أخرى، أو حتى لها أزماتها الخاصة، وظروفها الصعبة، أن تترك كل شيء لكي تتفرغ بالتأييد «المطلق» للبلد العربي المأزوم وإلا اعتبر هذا الطرف العربي أو ذاك خارجا على الصف العربي، أو «متواطئا» مع الأطراف غير العربية، وفي المقدمة منها إسرائيل والإمبريالية الأمريكية. ومن لا يصدق كل ذلك فما عليه إلا مراجعة أزمة غزة الأخيرة وما حدث فيها، وما يجري حاليا في الأزمة السودانية مع المحكمة الجنائية الدولية، حيث كان كل ذلك جليا وواضحا.

ما جرى في الرياض من «مصالحة عربية» هو فيما نرجو إدراكاً لذلك كله، هو في جوهره تقريب بين مصالح عربية مختلفة في مواجهة تحديات للجميع لا يمكن لأحد تجاهلها، وفوقها فرص من المصلحة للجميع انتهازها. وربما لا توجد مشكلة في كل ما سبق بالنسبة للرياض والقاهرة، حيث بلغ نضج «الدولة» مبلغه وأقام علاقات على أسس متينة، فيها الروابط العربية التقليدية، ولكن أهم منها على مصالح إستراتيجية واقتصادية يستفيد فيها الطرفان، ويمكن من خلالها توزيع الأدوار وإقامة السياسات حسب ما هو موجود لدى كل دولة من قدرات ومواهب. وضمن هذا الإطار فإن سوريا طرف في المنطقة يصعب إهماله، وهو يقع في منطقة التقاطع بين أزمات العراق ولبنان وفلسطين، وهو جزء من مشكلات هذه الأزمات، وبالتأكيد جزء من حلها. وقد كانت المشكلة دائما هي أن سوريا كانت لديها مشكلة في التعامل مع هذه العلاقات ضمن إطار الدول ومصالحها، وباستمرار كان لديها من تقاليد الخمسينيات والستينيات ما يكفي لكي تعقد كل أشكال العلاقات والأزمات، وخلال السنوات الأخيرة تعاملت مع قضايا إيران ولبنان والعراق وفلسطين بمنطق المصالح السورية، ولكنها المغطاة بغلالة ثورية وعقائدية تجعل التفاهم حول هذه المصالح مستحيلا.

والآن تغير الموقف، أو هكذا يبدو، حيث اتخذت دمشق مجموعة من الخطوات الإيجابية منها تبادل العلاقات الدبلوماسية مع لبنان، والقبول بدرجة أقل من الهيمنة السياسية على بيروت، وكان هناك قدر من التعاون الفعلي مع مصر خلال الأزمة الأخيرة في غزة من زاوية وقف إطلاق النار، والسعي نحو المصالحة الفلسطينية في القاهرة. وكان وراء ذلك احتياجات سورية لها علاقة بالأراضي السورية المحتلة في الجولان، ووصول إدارة أمريكية جديدة إلى السلطة ترغب في لعب دور نشط في الشرق الأوسط، وعلى نقيض ذلك نتائج الانتخابات الإسرائيلية التي تشير ـ حتى الآن ـ إلى اتجاهات مروعة. كل ذلك ليس بعيدا على الجانب الآخر بالنسبة لمصر والسعودية، حيث يتحسب العقلاء للواقع الجديد في العراق بعد الانسحاب الأمريكي، كما ينظر العارفون في الفراغ الاستراتيجي الذي تتصور القيادة الإيرانية أنها تستطيع التحرك فيه مرة بدعوى تحدي إسرائيل، ومرة باسم الإسلام، ومرة باسم فلسطين، وفي كل الأوقات باسم العداء للإمبريالية.

كل ذلك ليس جديدا على الذين يعرفون المنطقة وتاريخها، وتصبح قضية المصالحة هي كيفية التعامل مع هذا الواقع بمعطياته المعقدة؛ وفي الظن أن ذلك كان موضوع اجتماعات الرياض، حيث لم يعد الأمر بوساً للحى، أو عناقاً بعد فراق طال، أو استجلابا لعدسات تصوير، وإنما بحثا عن مصالح مشتركة، وتطلعا إلى أمور جادة لها القدرة الدائمة على مفاجأة الجميع.