صنعاء.. الدية على قاتل الكتابي!

TT

كان حكم المحكمة اليمنية، بعمران (2 مارس 2009)، على الضابط مسلم لقتله مواطن يمني يهودي بالدية دون رضى وليه، مخالفاً لما أقره أئمة معتبرون بتكافؤ الدماء، بين الناس، وهو ما يناسب العصر، ويساعد على تحقيق مصداقية الحوار بين الأديان، والإقبال على تعايش المواطنين على مختلف طبقاتهم ودياناتهم. وما يخص يهود البلدان العربية والإسلامية فلا ريب أن هجرتهم تعد إحدى ركائز ومقومات دولة إسرائيل، فهم خبرات جاهزة وأيدٍ عاملة، لم تُكلف سوى الخيام وأدوية معقمة تُرش عليهم لتأكيد سلامتهم مما في بلدانهم الأصل! هذا ما مورس مع يهود العراق، خلال هجرتهم الكبرى (1950ـ1951)، وما زالوا يكتبون ويتحدثون عنه بامتعاض!

ولا يخفى دور التعصب القومي والديني في هجرتهم، ذلك عندما يواجهون التهم وثقافة الكراهية ضدهم، مع أن غالبيتهم حاولوا المستحيل للبقاء ببلدانهم الأصل! فماذا يفعل عجوز يهودي ولد وعاش بمدينة الشامية العراقية مثلا والتظاهرات الحماسية متوجهة نحوه، مع أنه لا يدري باندلاع حرب الأيام الخمسة! وهذا ما جرى ضد يهود البلدان العربية عامةً. وأجد في ممارسة مملكة البحرين من تعيين مواطنة بحرينية يهودية في السلك الدبلوماسي، وإشراك آخر في برلمان الدولة تجاوزاً صريحاً للانفعالات القومية والدينية، التي أعطت مبرراً لدعم الصهيونية كحامية لليهود!

إن ما صرخ به ماشا النهاري والد القتيل اليهودي اليمني في رواق المحكمة، بوجه القضاة وقاتل ولده: «هذه ليست شريعة محمد»! لم تأتِ لمطالبة بقانون وضعي، بل أتت، كما يبدو من درايته في مدونات الفقه الإسلامي. وللعلم أن أكثر أهل الأديان يقرأون ويحفظون النصوص القرآنية، وما يتعلق بأمرهم داخل ديار الإسلام، وذلك دفاعاً عن أنفسهم، مثلما هو النهاري. وهذا عين ما عبر عنه العراقي أنور شاؤول(ت 1984)، في محنة مشابهة: «إن كنتُ من موسى قبست عقيدتي.. فأنا المقيم بظــل دين محمد.. وسماحة الإسلام كانت موئلي.. وبلاغة القرآن كانت موردي»!

لا حراجة في القول: إن الفقه هو علم الرجال، وهو الفروع الجائز فيها الاجتهاد والاختلاف! إلا أن للزمن حقه، أمام بنود لوائح حقوق الآدميين، على حد عبارة الإمام يحيى بن آدم القرشي(ت203هـ)، في مصنفه «كتاب الخراج». ومبكراً ظهر أئمة حسبوا للزمن حسابه، وهم أيضاً استندوا إلى نص قرآني، وذلك إذا علمنا أن «القرآنَ حمَّالٌ ذُو وجوه»(نهج البلاغة). وبهذا لا نجد الإمام أبا حنيفة (ت 150هـ) في حكمه بتكافؤ الدماء بعيداً عن سند قرآني، في القصاص أو الديات.

قالت الحنفية: «يُقتل المسلم بالذمي، لأن الله تعال قال: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى. تخصيص بالذكر، وهو لا ينافي ما عداه.. فالآية محكمة، وفيها إجمال بينه قوله تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ. وقتل المسلم بالذمي نفس بنفس»(الإمام الشافعي، كتاب الأم). وكان استدلال وسند المذهب الحنفي على وجوب القصاص من القاتل بتكافؤ الدم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى». عام في الكل. وقوله تعالى: «الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى» عام في الكل(أحمد بهنسي، القصاص في الفقه الإسلامي). كذلك يستند أبو حنيفة في التكافؤ الدماء إلى الآية: «وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ»(كتاب الأم). وخلاصة القول: أن أبا حنيفة يعتبر «القصاص يعتمد المساواة في العصمة»(الجزري، الفقه على المذاهب الأربعة). ومن قبل قاد أبو يوسف (ت 182هـ) قاتل رجل كتابي ببغداد، وحينها تسلم تهديداً من مخالف: «جارَ على الدين أبو يوسف.. بقتله المُؤمن بالكافر»(الماوردي، الأحكام السلطانية). هذا والأسانيد على تكافؤ الدماء غزيرة، لكنها بحاجة إلى اعتماد في ما يناسب روح العصر.

عموماً، قدمت المحكمة اليمنية، لحكمها بالدية على قاتل اليهودي، شاهداً على مظلومية غير المسلمين في بلاد الإسلام، بينما ما قدمه الفقه الحنفي، وفقهاء آخرون من مذاهب أخرى، شاهداً ودليلا، من صُلب الدين، على تعايش أهل الكتاب بديار الإسلام، وهو الحكم الذي استخلصه أبو حنيفة من الدين نفسه، قبل أكثر من اثني عشر قرناً! ولهذا الإمام، الذي شوشت مقالاته، أكثر من ذلك في انفتاحه المبكر! حتى أمسى أكثر تحضراً وتسامحاً من فقهاء يعيشون الألفية الثالثة من التاريخ!

هنا تأتي معضلة تسييس الدين، واتخاذ الشريعة، المحصورة بمذهب واحد، المصدر الوحيد للتشريع، مع أنها علم الرجال! وما تكافؤ الدماء إلا واحدة من ضرورات العصر، وهي لا تخالف الثوابت! هذا وللبابلي الأصل، والكوفي المولد والنشأة، سهولة وتسامح في ما يخص التعايش بين الأديان، ومؤهلات النساء في القضاء.

[email protected]