فرض الفرنسية في الإعلام المغربي ضدا على ميول الجمهور

TT

غني عن البيان أن استعمال الفرنسية كلغة انفتاح في المغرب ينطوي على فوائد بديهية بالنسبة للبلد. فكما قدمنا في مقال سابق لا سبيل إلى التفريط في رأس المال المتخلف عن الاحتكاك الذي وقع لنا مع فرنسا في القرن العشرين، والذي أصبح يمثل جسرا مع الثقافة الفرنسية وأداة تواصل في حظيرة الأسرة الفرانكوفونية. ونشأت عن ذلك الاحتكاك أواصر وانشغالات مشتركة في عدة مجالات.

وكانت للمغرب، قرونا قبل الآن، لغة انفتاح أوروبية أخرى هي الإسبانية. وكان الملوك المغاربة يستعملونها في مخاطبة ملوك الأرض، وذلك منذ المنصور السعدي، مرورا بمولاي إسماعيل، إلى محمد الثالث. بل إن رسالة هذا الأخير إلى جورج واشنطن التي أبلغه فيها اعتراف المغرب باستقلال البلد الأميركي الفتي، توشي بأن العالم الحديث دخل المخيلة المغربية عبر الإسبانية. لأن المسميات الواردة في الرسالة كانت مدونة وفق ما ينطق به الإسبان.

ولكن الإسبانية كانت تحتل مكانا محدودا هو أنها لغة انفتاح. أما الفرنسية اليوم فإن شأنها غريب إذ أنها تزاحم، اللغة الرسمية حتى أنها تكاد تحتل مكانها. ويتم ذلك بكثير من العدوانية وفي معاكسة واضحة للميول الطبيعية للجمهور. وأكثر ما يتجلى هذا الاستفزاز هو في الإعلام. فإن وسائل الإعلام المكتوبة والسمعية والبصرية تلقى إقبالا طبيعيا من لدن الجمهور حينما تستعمل اللغة العربية، ولكن توجهات رسمية واضحة، مثل ما يقع في التعليم والاقتصاد والحياة العامة، تأبى إلا أن تعاكس ميول الجمهور بل تستفز تلك الميول.

فمن خلال البرمجة في القنوات التلفزيونية يتم تقديم النشرات الإخبارية بالفرنسية خاصة في التلفزيون بكيفية مزاحمة للنشرة العربية. وانعدمت أو تكاد البرامج الثقافية والأدبية بالعربية سواء بالقناة الأولى أو الثانية. في حين أن برامج النقاش انزلقت إلى أوقات متأخرة من الليل. وهذا الانزلاق حدث بشكل مبيت في السنوات الأخيرة لفرض عادات استماع مغايرة لما ألفه الناس. ومن جراء ذلك الانقلاب أخذ الجمهور المغربي ينصرف بكيفية متزايدة عن القناتين العموميتين، لفائدة القنوات غير المغربية وخاصة لفائدة القنوات الفضائية العربية. وذلك بشكل واضح جدا.

وقد أجري استطلاع للرأي في منتصف العام الماضي شمل 3750 مبحوثا، أفرز حقيقة أساسية وهي أن الجمهور الذي تفقده القناتان الوطنيتان يذهب بكيفية أساسية إلى الفضائيات العربية. وهي بالترتيب: م ب س 2 ( 7،5% ) ، و م ب س 4 (5،6 %)، والجزيرة (5% )، م ب س (3،9% ) وروتانا ( 3% ) وم ب س أكشن (2،5 % ) ثم قناتا العربية ول ب س. وأخيرا القناة المزدوجة اللغة ميدي 1 سات وهي تسير بأموال مغربية أساسا، ولا تزيد حصتها في المشاهدة على (0،40 % )، واعتبرت حصيلتها سلبية جدا، وهي تتعرض إلى انتقادات مرة، ولكن يتم التستر عليها فقط لأنها تدخل في إطار صفقة فيها طرف أجنبي.

أما الفضائيات الفرنسية فهي في مجموعها لا تزيد حصتها على 0،5 % . ومعنى هذا أن كل الجهد الذي يبذل لفرض الفرنسية على الذوق العام لم يفلح. ومن بين كل الفضائيات الأجنبية تحتل الفرنسية الرتبة 12. وهذه بدورها مرتبة كالآتي: ت ف 1، فرانس 2، فرانس 3، فرانس 5، كنال بلوس، م 6، أرطي.

فالعربية إذن هي المفضلة عند الجمهور المغربي، تبعا لهذا الاستطلاع الحديث العهد. ومثل هذا موجود في الإعلام المكتوب حيث تضاعف مبيعات الصحف المكتوبة بالعربية مثيلتها بالفرنسية، سواء المحلية أو المستوردة. ومع ذلك فإن أصحاب القرار يعاندون ميول الجمهور المغربي. وهم يجددون على مر السنين محاولاتهم، رغم أنه يظهر جليا أنه لا جدوى لتلك المحاولات. إن تفضيل العربية برز دائما، كلما أجري استطلاع في هذا الشأن. وهذا ما يجعلنا نعتبر أن الاختيار المعاكس لذلك هو مجرد استفزاز.

وفي 1992 حينما أجرى «مجلس الشباب والمستقبل» استطلاعا ميدانيا، حول ظروف معاشرة الجمهور للقنوات التلفزيونية، تأكد حينئذ ميل الجمهور للفضائيات العربية في وقت اقترن بظهور الصحون المقعرة (البارابولات) التي قلبت عادات المشاهدة عند جمهور التلفزيون، حيث لم يعد التقاط البرامج التلفزيونية مقتصرا على المحطات القريبة. وكان ذلك الاستطلاع قد أظهر أن جمهور التلفزيون في الساحل المتوسطي للمغرب الذي كان يفضل القنوات الإسبانية، القريبة جغرافيا، ويؤثرها على البرامج المغربية، قد تحول إلى الفضائيات العربية حينما أصبحت متاحة بفضل البارابول. ورغم أن القناة الخامسة الفرنسية كانت تحظى حينئذ بدعم تقني لكي تشاهد في بعض المدن المغربية، فإنها كانت تأتي في مرتبة أدنى بكثير من المحطات الإسبانية القريبة في الأندلس وكنارياس. إذ كانت حصة المحطات الإسبانية إذ ذاك 12 % بينما لم تكن حصة المحطات الفرنسية تزيد على 3 %.

وهذا ما يتجدد تأكيده في الوقت الراهن من خلال التقارير الشهرية التي تصدر عن جهاز متخصص يعمل في المغرب منذ مارس (آذار) 2008 وهو ماروكميتري. وظهر من جديد في تقرير الشهر الماضي (فبراير 2009) أن الجمهور المغربي حينما تقدم له برامج بالعربية يقبل عليها أكثر من غيرها. فرغم الجهد العنيف المعاكس لميول الجمهور، فإن البرامج العشرة الأكثر حظوة عند الجمهور المغربي في شهر فبراير (شباط) في القناة الأولى، ليس فيها برنامج فرنسي واحد. وفيما كانت نشرة الأخبار بالفرنسية تحتل المكان الأخير في الشهور الماضية من بين البرامج العشرة الأفضل، اختفت في لائحة شهر فبراير، وقرر الجمهور أن يكتفي بالنشرة العربية وحدها. وأما في القناة الثانية فليس هناك من بين البرامج العشرة المفضلة في شهر فبراير سوى مسلسل تركي كبرنامج غير مغربي. وهناك برنامج يحتل الرتبة السادسة هو برنامج منوعات تقحم فيه الفرنسية بشكل مستفز.

ويمكن أن نذكر أن نشرة الأخبار بالعربية في الأولى، كانت في طليعة لائحة البرامج العشرة المفضلة، وذلك بنسبة 25،6 % وكانت هي الثانية في الترتيب أما النشرة بالفرنسية فنسبتها كانت 20 % وبها تنتهي لائحة العشرة.

غير أن هناك معطى جديرا بالانتباه وهو أن حصة مشاهدة القناتين العموميتين هي في تضاؤل مستمر شهرا بعد شهر. فبالنسبة إلى فئة ما فوق 15 سنة، اقتصرت حصة القناة الأولى من بين المشاهدين على 17،7 %، والثانية على 19،5 %، بينما فضل 62،8 %من المشاهدين النزوح إلى فضائيات غير مغربية.

وضمن هذه المعطى يجب التذكير بأن نسبة النازحين تكثر في شمال المملكة، إذ بلغت في شهر فبراير 74،8 %، وهي نسبة مرتفعة جدا تدل على نفور حاد من القناتين العموميتين المغربيتين. ويفضل الجمهور النزوح نحو غيرهما، وبالخصوص نحو الفضائيات العربية وهي ميزة متأصلة في جمهور الشمال. وتردفها في ذلك جهة الجنوب التي سجلت في فبراير حصة النازحين 65،4 % ، وهي مثل جهة الشمال تضرب عن الفرنسية بوضوح. ويظهر جليا أن جمهور الجهتين يهرب بجلده عن الفرنسة القسرية بنسبة تزيد على المعدل الوطني بثلاث نقط ونصف في الجنوب وب 13 نقطة في الشمال، بما في ذلك أقاليم الريف التي لا تنسى أن رمزها، الزعيم الخطابي، كان عروبيا ناصريا. وهذا كما قلت شعور متأصل.