بين مكة المكرمة وجدة

TT

بين مكة المكرمة وجدة مسافة لا تتجاوز السبعين كيلومترا، وكانت هذه المسافة القصيرة تكفي في الماضي لإحداث القليل من الفروقات في خامات وأشكال البناء، وطرائق التعبير، والملبس، وبعض المفردات العامية، إذ كان لكل مدينة بعض خصوصياتها التي تميزها جزئيا عن الأخرى، وتؤثر في سيكولوجية سكانها، فأهل مكة المكرمة أهل علم وثقافة، وقد نهلوا من حلقات الحرم المكي الشريف الكثير من معارفهم وعلومهم، كما تعودوا من العمل في مواسم الحج على الاستقلالية، والنضج المبكر، حتى أن بعض الصبية كانوا يجيدون عددا من اللغات، فتجدهم يتكلمون الأردية، والجاوية، والفارسية، وغيرها من اللغات التي يحتاجونها للتعامل مع ضيوف الرحمن. والعمل الموسمي يكسب الفرد مهارة سرعة اتخاذ القرار، وسمات الجرأة، والمنافسة، وحب العمل، إلى الدرجة التي يصعب أن تجد في مكة المكرمة حتى عهد قريب من لا يسهم بشكل أو بآخر في منظومة الأعمال الموسمية التي تزدهر في الحج.

ويختلف الحال جزئيا في جدة، ويمكن القول إن معزوفة المد والجزر على شاطئ المدينة أسهمت في تشكيل مزاج سكانها، فهم أقرب إلى الاعتدال، والانفتاح، والدعة، وطفولة الفرد في جدة كانت أطول من نظيره المكي، وهم كما صنفهم الرحالة بوركهارت، الذي زار جدة عام 1814 أهل بحر وتجارة، وتجارتهم يغلب عليها سمة الاستمرارية طوال العام، منذ أن غدت جدة في عهد المماليك الميناء الأكثر شهرة على شواطئ البحر الأحمر، والذي يتجمع على سواحله جزء كبير من تجارة مصر، والهند، والجزيرة العربية.

ولقرب المدينتين اللتين يرتبط الكثير من سكانهما بصلات من الرحم والمصاهرة، كانت تنشأ بين سكانهما ـ كأي مدينتين متقاربتين ـ بعض المنافسات الاحتفالية، والرياضية، وبعض المداعبات الاجتماعية، وكان لمكة المكرمة ـ ولا يزال ـ فريقها الكروي الجميل «الوحدة»، يقابله في جدة فريقها الرائع «الاتحاد»، ولقاء الوحدة والاتحاد منذ القدم عرس تهتم وتحتفل به المدينتان، ففي الساعات التي تسبق لقاء الوحدة والاتحاد تجد أسواق جدة، ومطاعمها ومقاهيها، قد امتلأت بأبناء مكة المكرمة، الذين يأتون لمساندة فريقهم، وهم يرفعون الأعلام الحمراء والبيضاء، ويطلقون الأهازيج مثل:

«يا اتحاد لا تباري.. أمر الله عليك جاري»، فيرد عليهم الاتحاديون من أبناء جدة، وهم يرفعون أعلام فريقهم الصفراء والسوداء:

« يا واد وحداوي صير اتحادي»، و«الاتحادي منصور من الله».

وكان أهل جدة يعرفون المكيين من خلال بعض صفاتهم، كما يعرف أهل مكة المكرمة أهل جدة عبر بعض سماتهم، وبالتالي كان يسهل تصنيف مشجعي الفريقين، وتبادل المداعبات، والهتافات. وينصهر اليوم الجميع في بوتقة الثقافة الجامعة، فتوحدت طرائق التعبير، والمفردات، والملابس، ومجتمعات المدن، وغدت مثل تلك الذكريات ضربا من الحكاية يسترجعه سكان المدينتين في مجالسهما الموحدة أحيانا للضحك، والمرح، وتلطيف الأجواء بنكهة الزمن، وعبق التاريخ.

[email protected]