حكاية سفارتين

TT

هناك أشياء كثيرة في العمل السياسي لا أستطيع أن أفهمها مهما قرأت، ومهما حاولت. منها، مثلا، أن تفتح أول سفارة لسورية في بيروت، بعد 66 عاما على استقلال لبنان، وأن تفتح أول سفارة للبنان في دمشق بعد هذه الفترة، على بعد 70 كيلومتراً. ولست أدري لماذا تأخرت سورية في إرسال السفير، وتأخر لبنان، ولماذا بقي حدث من هذا النوع على مستوى القائمين بالأعمال. ولا أدري إذا كانت السفارة دون سفير تشكل اعترافا ناقصا أو كاملا باستقلال لبنان، أو لا تشكل اعترافا على الإطلاق، أو تشكل اعترافا يمكن العودة عنه.

ولا أدري ماذا يغير تبادل السفارات والسفراء في واقع الحال وطبيعة العلاقات. ولا ماذا يمكن للسفيرين أن يحلا من عقد لم تكن تحل في الماضي. ولا ماذا يستطيع السفير اللبناني أن يفعل إذا قررت سورية غدا إغلاق حدودها في وجه الشاحنات والسيارات بداعي فساد الخضار، في حين أن الحقيقة هي في فساد العلاقات السياسية بين البلدين.

من المضحك جدا أن تتأخر العلاقة الدبلوماسية ستين عاما بين بلدين في مثل هذا التلاصق، ومن المضحك أكثر أن تقام بالتقسيط غير المريح، ومن الأكثر إضحاكا أن تعطى المسألة كلها كل هذه الأهمية: خصوم سورية يرون في الخطوة انتصارا عليها، وحلفاؤها يرون في مستوى التبادل انتصارا لها. الأفضل من ذلك كله كان أن يتم التبادل في صورة عادية طبيعية كما بين أي بلدين في العالم. فالهدف من العلاقة هو تثبيتها وليس النكايات ولا الكيديات ولا تسجيل النقاط. فما حصل قد حصل، سواء أرسلت سورية السفير غدا أو لم ترسله أبدا. والغرض من السفارتين ليس المزيد من رش الملح على الجراح، بل الشروع في علاقة سوية متكاملة تليق بكل هذه العناصر المكونة لطبيعة العلاقة، الطوعي منها، وهو كثير، والإلزامي، وهو ليس بأقل.

المؤسف في كل ذلك أن تكون فرنسا، التي أعلنت قيام «لبنان الكبير»، هي التي ضغطت على سورية في أمر التبادل الدبلوماسي. والمؤسف أن تكون دمشق قد أعطت «الوعد» بذلك لباريس. والمؤسف أن تسافر بيروت ودمشق أربعة آلاف كيلومتر إلى عاصمة الانتداب لكي تعلنا الخطبة السعيدة في كنفها ورعايتها، بدل عبور الحدود. سواء كانت مرسمة أم لا.