مشكلة باكستان: رئيسها آصف زرداري

TT

الأزمة التي عصفت بباكستان الأسبوع الماضي، وضعت تلك البلاد مرة جديدة على تقاطع استراتيجي بالنسبة لما يتعلق بمستقبلها كدولة قابلة للحياة ومستقرة سياسيا.

الأزمات السياسية مزمنة في باكستان، بسبب التركيبة السياسية الضعيفة التي لم يسمح لها بالنمو واشتداد صلبها، نتيجة لتدخل المؤسسة العسكرية، ولدعم الدول ذات المصالح الاستراتيجية في باكستان، للضباط العسكريين للاستيلاء على الحكم، أو للديكتاتوريين بإيصال تلك البلاد إلى أيدي العسكر.

الأزمة الأخيرة، ليست فقط وليدة رفض الرئيس آصف زرداري إعادة القضاة الذين عزلهم الرئيس السابق برويز مشرف، بل هي أيضا نتيجة لمناورة سياسية قامت بها المؤسسة العسكرية بموافقة واشنطن، فوضعت زرداري الذي لا خبرة له، ولا مصداقية، نظرا لتهم الفساد التي تلاحقه، رئيسا للجمهورية من دون إعادة تحجيم صلاحيات الرئيس التي كان فصلها على مقاس الجنرال مشرف. المظاهرات المتعلقة بإعادة القضاة المعزولين بدأت في مارس (آذار) 2007، وانتهت في مارس (آذار ) 2009، وخروج هذا الكم من الباكستانيين، الذي فاجأت أعداده الكثيرة رئيس الوزراء السابق نواز شريف، كشف أمرين: الأول، بُعد زرداري عن الواقع اليومي الشعبي في باكستان. والثاني، أن الباكستانيين يريدون نظاما ديمقراطيا يحترم حقوق الإنسان وينشئ مؤسسات ليبرالية.

وإذا كان مشرف بصفته عسكريا لا يؤمن بهذه الحقوق، فإن زرداري كشف ميله إلى الديكتاتورية في الحكم. صحيح أن كل الرؤساء الذين تعاقبوا على باكستان منذ انفصالها عن الهند واستقلالها، تسببوا في فوضى فيها، لكن لم يحدث أن أيا منهم وبوقت قصير جدا، أقدم على ما أقدم عليه زرداري خلال ستة أشهر فقط. أسلوبه الاستبدادي في الحكم، عدم تقبله بحق المعارضة أو حرية الرأي، غيرته وشكوكه بكل النشطاء السياسيين، عدم اهتمامه ولا مبالاته بما يتعرض له البلوش والباشتون، ولجوءه إلى الأساليب القاسية في التعامل مع مناوئيه السياسيين، أدى كل ذلك إلى مواجهات الشارع التي كادت تفقده رئاسته، وتغرق باكستان في مجهول أسود.

لم يكتف زرداري بمضاعفة أعدائه لدى التنظيمات أو الأحزاب المناوئة، بل ان شعبيته تدنت داخل «حزب الشعب»، حزبه، فهو كان دائما «وقحا» تجاه أعضاء الحزب خصوصا النواب والوزراء، وكاد يفقد زعامة الحزب، لأنه أحاط نفسه بأصدقاء وشركاء غير منتخبين، يقومون بتوجيه النصح له في الشؤون الحساسة في الحكم.

مشكلة زرداري عدم استيعابه ظروف باكستان، وحصر كل مشاكله في كيفية مواجهة مناوئيه وزجهم في الإقامة الجبرية. انه لا يدرك ان اهتمام العالم اليوم بباكستان يختلف عما كان عليه زمن حكم والد زوجته، ذو الفقار علي بوتو. في السبعينات لم يكن هناك جهاديون، أو «القاعدة» أو «طالبان»، ولم يكن هناك من خوف، ولو ما زال بعيدا، من احتمال وضع فئة من هؤلاء يدها على النووي الباكستاني.

إن عدم قدرة زرداري في التركيز على هذه الأخطار وكيفية تحجيمها، وتفرغه للانكباب على مناوئيه السياسيين في وقت تتحول فيه باكستان إلى مركز للأخطار الطالبانية، لا بد أن يدفع الذين يدعمونه داخليا وخارجيا، إلى مراجعة حساباتهم.

مساء الأحد الماضي، وفي خطوة لافتة لتراجع الرئيس، أعلن رئيس الوزراء الباكستاني يوسف رضا جيلاني عن موافقة حكومته على إعادة كبير القضاة افتخار محمد تشودري مع خمسين قاضيا آخرين إلى مناصبهم. جاء الإعلان بعد لقاء قائد الجيش الجنرال اشفق برويز كياني مع الرئيس زرداري ورئيس الوزراء جيلاني، حيث طلب منهما التراجع عن القرارات المتخذة: عدم إعادة القضاة، حكم المحكمة العليا بعدم أهلية زعيم المعارضة نواز شريف للمشاركة السياسية الصادر في 25 من الشهر الماضي، إلغاء حكومة «حزب الرابطة الإسلامية» (حزب شريف)، التي يرأسها شاهباز شريف، شقيق نواز ورئيس إقليم البنجاب.

طالب كياني بالتراجع عن كل هذه القرارات لأن الوضع سيتفجر.

وكان اتفاقا تم التوصل إليه بين واشنطن والمؤسسة العسكرية الباكستانية لدفع زرداري للقبول بالتراجع. وكانت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون اتصلت بكل من زرداري وشريف لإظهار بعض المرونة في مواقفهما وحثهما على التوصل إلى تسوية عبر التفاوض. كما دخل على الخط المبعوث الأميركي إلى أفغانستان وباكستان ريتشارد هولبروك، والسفارة الأميركية في إسلام آباد.

المعارضة رفضت التجاوب مع المحاولات الأميركية. كما أن زعيم ابرز الأحزاب الإسلامية «الجماعة الإسلامية» القاضي حسين احمد، حذر واشنطن من التدخل وطالبها بعدم محاولة ممارسة أي نفوذ على باكستان، وحث قائد الجيش على الضغط على الحكومة للاستجابة لمطالب المعارضة، و«الجماعة الإسلامية»، بسبب تنظيم كوادرها، تعتبر المحرك الأساسي لمظاهرات المحامين التي طالبت بإعادة القضاة المعزولين.

لم يكن أمام جيلاني خيارات كثيرة، ذلك أن رجال الشرطة في لاهور تحدوا حكومة «حزب الشعب»، وسمحوا لآلاف المتظاهرين بالانطلاق نحو إسلام آباد.

ما حاول زرداري إبعاده، سيحدث. وقد لا يكون تراجع حكومته عن الكثير من قراراتها المتعلقة بالقضاة والمعارضة، هو إنهاء للازمة، أو لسلاح المظاهرات. واكتفاء نواز شريف بتحقيق مطالبه الآن، لا يعني انه لم يعد يتطلع إلى الإطاحة بحكومة زرداري، خصوصا بعد ما رفض الجيش الباكستاني التجاوب مع تلميحات الإدارة الأميركية للتدخل.

هذا بحد ذاته سيثير الكثير من التساؤل حول قدرة الولايات المتحدة التأثير على اتخاذ القرارات في باكستان. وقد يكون السبب أن أفراد الجيش الباكستاني اغلبهم من البنجاب، وكذلك لرفض كياني قائد الجيش السير على خطى القادة العسكريين السابقين: برويز مشرف، ضياء الحق، يحيى خان، أيوب خان. ثم انه لمس ترحيب الباكستانيين به عندما أصدر أمرا إثر تسلم قيادة الجيش، لكل الضباط العسكريين في الإدارات المدنية بالعودة إلى الثكنات.

ما تخوف من حدوثه زرداري، سيحدث إذن. ففي الواحد والعشرين من هذا الشهر، عندما سيؤدي القاضي تشودري اليمين الدستورية مع إحالة القاضي الحالي عبد الحميد دوغر إلى التقاعد، لا بد انه سيستأنف مهامه من حيث انتهى، وسيواجه قانونيا كل قضية تسببت في إقصائه.

من ابرز هذه القضايا، مصداقية «قانون المصالحة الوطنية»، أو العفو الرئاسي الذي أصدره الرئيس السابق مشرف، ويتعلق بدعاوى الفساد التي كانت مرفوعة ضد «الرئيس الحالي» آصف زرداري وضد زعماء آخرين من «حزب الشعب». فذلك القانون الذي وفر لهم «عفوا رئاسيا فقط»، سمح لهم بخوض الانتخابات وتشكيل حكومة لاحقا، ليصبح زرداري ديكتاتورا صغيرا.

وهناك أيضا قضية المسجونين من دون محاكمات، بتهمة ارتكابهم «جرائم إرهابية» في وقت تخوض فيه الدولة الحرب ضد الإرهاب. وقبل إقالته اصطدم تشودري مع المؤسسة العسكرية بسبب قضية هؤلاء. ولا بد انه سيناقش ضرورة وقانونية العودة إلى الدستور الذي علق برويز مشرف العمل به ليوسع من صلاحياته، وتمسك زرداري من بعده بالتعليق والصلاحيات.

اذن، قد يكون تم تنفيس هذه الأزمة، لكن الوضع لا يزال غير محسوم في باكستان، ولا تزال حكومة زرداري معرضة للخطر، والرئيس سيشعر بالعزلة لا سيما انه يتهم جيلاني بالتقرب من الجيش، خصوصا بعدما طرد رئيس الوزراء صديق زرداري مسؤول الأمن القومي محمود علي دوراني في الشهر الأول من هذا العام.

الوضع في باكستان غير مطمئن. أزمة اقتصادية، رئيس ضعيف، وصار يصعب عليه حكم بلاد تفلت من يده. ذلك أن منطقة «وادي سوات» صارت تحت حكم مولانا فضل الله أكثر الموالين لـ«طالبان»، كما أن حكومة المناطق الحدودية الغربية ـ الشمالية توصلت إلى اتفاق مع «طالبان باكستان»، بأن يفرضوا حكم الشريعة في المناطق التي يسيطرون عيها.

في ظل هذه التطورات، ومع ضعف قبضة الدولة على كل مناطقها، لا يمكن تجاهل احتمال أن يتطلع الباشتون والبلوش إلى الاستقلال بمناطقهم!

كأن باكستان في طريقها إلى «البلقنة». العدالة التي يتطلع إليها القضاة العائدون قد تفجر التركيبة السياسية. أخطأت واشنطن عندما سمحت بوصول آصف زرداري إلى الحكم إثر مصرع زوجته بي نظير بوتو. الآن، هل يقبل نواز شريف بأن يتعامل مجددا مع زرداري بعد أن أخل بكل وعوده السابقة، وهل يقبل زرداري تقديم تنازلات لخصمه السياسي ويعرض عليه المشاركة في الحكم؟

أوضاع باكستان معقدة، والربيع على الأبواب وهجوم «طالبان» في أفغانستان يقترب، والولايات المتحدة لم تضع بعد استراتيجية جديدة للتعامل مع أفغانستان وانعكاس أوضاعها على باكستان، و«طالبان باكستان» يكتسحون كل المناطق الحدودية باتجاه إسلام آباد.