الرئيس أوباما بين المتخيَّل والممكن

TT

تخدم الاستراتيجية عادة سياسة معينة تضعها القيادة السياسية. ويتوقف حجم هذه الاستراتيجية ومفاعيلها على الساحة العالمية، على الوزن الذي تتمتع به الدولة المعنية. ففي القرن العشرين كانت أميركا القوة المُديرة الوحيدة، لأسباب عدة. فكلما تحركت أميركا، تأثر العالم وتحرك. شاركت في الحرب العالمية الأولى، فأنتجت نظام عصبة الأمم. سقط هذا النظام، لأن الكونغرس الأميركي رفض الانضمام إليه. خاضت الحرب العالمية الثانية، فكان السلاح النووي، وكان نظام «بروتون وودز» المالي، كما كانت المؤسسات العالمية، وعلى رأسها الأمم المتحدة.

خاضت أميركا الحرب على العراق عام 1991، فكان أكبر تحالف في التاريخ. ضُربت أميركا في عقر دارها في 11 أيلول عام 2001، فكان العنوان الرئيسي لجريدة «اللوموند» الفرنسية: « كلنا أميركيون».

دعم العالم أميركا في حربها على الـ«طالبان»، لكنه خذلها في حربها لتغيير النظام في العراق. فانقسم العالم بين مؤيد ومنتقد. حتى إن الغرب انقسم على نفسه، الأمر الذي دعا وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد إلى نعت أوروبا بالقديمة.

تعثرت أميركا في العراق، فتحرك العالم للإفادة من الوقت الضائع، خاصة القوى المنافسة التي تحلم بدور عالمي، وتحديدا روسيا والصين. لكن هذا التعثر لم يمنع القوى الإقليمية الطامحة أيضا من تحسين وضعها. وتندرج إيران كأهم لاعب في هذا الإطار.

وأخيرا، وليس آخرا، كانت الأزمة العقارية في أميركا، فكانت أزمة السيولة في كل العالم، التي قد تتحول إلى أسوأ أزمة اقتصادية في العالم.

وهنا، يسأل الكثيرون من الخبراء، هل يمكن في المدى القريب تخيل عالم من دون الولايات المتحدة الأميركية؟ بالطبع كلا، لكن ليس حبا بالعم سام، لكن بسبب عدم توافر البديل، خاصة أن العالم في حاجة ماسة إلى بوليس دولي، لتامين حد أدنى من الاستقرار. وفي هذا المجال، هل يمكن تخيل، مثلا، أن أول منافس للولايات المتحدة، وهو الصين، يسعى حاليا لشراء ديون العم سام عبر سندات الخزينة، لأن الصين تعتمد، أكثر ما تعتمد، على السوق الأميركية. فسقوط أميركا اقتصاديا، يعني وقف التصدير الصيني إليها، ويعني وقف الإنتاج في الصين، الأمر الذي سيؤدي إلى نسبة بطالة مرتفعة، وبالتالي إلى عدم استقرار اجتماعي، وهذا أمر ليس غريبا عن الصين تاريخيا.

يأتي الرئيس أوباما مع «بليتز» سياسي واسع، يعم العالم كله تقريبا. لكن المتخيَّل شيء، والواقع شيء آخر. كما أن السياسة شيء، والوسائل لتنفيذها هي أيضا شيء آخر. فإذا كانت الاستراتيجية تخدم السياسة كما قلنا أعلاه، فعلى السياسة أن توفر وسائل الاستراتيجية، خاصة أن الاستراتيجية بشكل عام، هي فكرة تربط ما بين الوسائل والأهداف. فكلما كبرت الأهداف السياسية، تطلب الأمر استراتيجية أكثر شمولا، ووسائل عديدة.

كُتب الكثير أخيرا عن تشكل ما يُسمى عقيدة أوباما. فماذا عنها؟

يطلق عادة الرؤساء الأميركيون عقائدهم الاستراتيجية من خلال خطاب علني. وأوباما لم يشذ عن هذا التقليد، فقال:

- لا يمكن لأميركا الاعتماد على القوة العسكرية وحدها لتحقيق أهدافها السياسية.

- إذا قررت أميركا استعمال القوة العسكرية، فيجب عندها السعي لإشراك الحلفاء والأصدقاء.

- عند الذهاب إلى الحرب، يجب تحديد الأهداف بوضوح ودقة.

- يجب أيضا، قياس كلفة العمل العسكري، ووضع الشعب الأميركي في الصورة.

في هذا الإطار، تشمل أجندة أوباما تقريبا كل الأقاليم العالمية. فهي تبدأ في الشرق الأقصى مع الصين الصاعدة، لتصل إلى الأزمة المالية الأميركية، وذلك مرورا بـ: الأزمة الكورية الشمالية. الأزمة بين الهند وباكستان. أزمة الناتو في أفغانستان وعلاقتها بالدور الباكستاني المطلوب أميركيا، التي بدورها مرتبطة بالعودة الروسية، خاصة بعد الحرب الروسية على جورجيا. الأزمة مع إيران، إن كانت في النووي، أو في مدى دورها في العراق مستقبلا. الأزمة مع سورية، ودورها في لبنان، وفي فلسطين خاصة مع حماس. أزمة الشرق الأوسط الأولى، أي القضية الفلسطينية.

كل هذه المعضلات مترابطة، والكل يطلب الدور الأميركي. فالأزمة الكورية تتطلب دورا صينيا، لكن الصين تطلب من أميركا الاعتراف بها كقوة عالمية، وعدم التدخل في قضية تايوان. وإلا فما معنى ما حصل أخيرا في بحر الصين بين البحريتين الأميركية والصينية؟

تتطلب الأزمة بين الهند وباكستان أن تعمد الثانية إلى ضبط حركة طالبان، وضبط المنظمات الجهادية. لكن هذا الأمر يتطلب عدم التحالف الأميركي الهندي، لأنه سيكون حتما ضد المصالح الباكستانية. فإذا توعدت الهند باكستان بالرد على عملية مومباي، فإن باكستان سوف تحشد عظيم جيشها على الجبهة الهندية، الأمر الذي سيسبب أزمة للناتو في أفغانستان.

إذا قرر أوباما زيادة عديد القوات في أفغانستان، فعليه تأمين خطوط المواصلات واللوجستية. وهذا أمر يتطلب تعاون باكستان. وإذا تعذر ذلك، وجب توفير البديل، الذي قد يكون عبر دول آسيا الوسطى أو روسيا. وهذا أمر يتطلب موافقة روسية. وهذه لها ثمن يتمثل بـ: الاعتراف بمناطق النفوذ الروسية التاريخية. بالإضافة إلى عزوف أميركا عن توسيع الناتو، وعدم نشرها شبكة الصواريخ المضادة للصواريخ في كل من بولندا وتشيكيا، هذا عدا إعادة صياغة المعاهدات المتعلقة بالصواريخ النووية العابرة للقارات.

إذا قرر أوباما استشارة الحلفاء حول زيادة عديد الناتو في أفغانستان. فهل ستقبل القوى الأوروبية؟، التي يقول عنها البعض إنها أصبحت دول ما بعد الحداثة، أي أنها دول تستعمل فقط القوة الطرية واستغنت عن القوى الصلبة والحروب. هذا مع التذكير أن النظام الثنائي قد سقط، ولم تعد أوروبا تحتاج إلى الحماية الأميركية المباشرة.

إذا قرر أوباما إيصال اللوجستية إلى الناتو عبر إيران، فلهذا القرار ثمن يتمثل بـ: القبول بالدور الإيراني الإقليمي الذي يبدأ في العراق، وحتى فلسطين، مرورا بلبنان. القبول بالمشروع النووي الإيراني. ضرورة التطمين الأميركي لطهران أن نظامها ليس مستهدفا.

إذا وافقت أميركا على المطالب الإيرانية، فكيف ستقنع العرب الحلفاء؟ وكيف ستفسر الأمر لتركيا الحليف التاريخي؟ وماذا عن إسرائيل؟

وإذا قررت إرضاء سورية فهل يمكن لأميركا اليوم التخلي عن لبنان؟

إذا، المشاريع كبيرة جدا. وهي تفتقد استراتيجيات محددة. كما أنها تفتقد الوسائل اللازمة للتنفيذ. فكيف يمكن توفير الوسائل، فيما أوباما لا يملك اليوم جيشا كافيا لتحريكه، أو حتى التهديد به؟ فالدبلوماسية عادة، وحسب كيسنجر، هي عمل متواصل يقوم على السياسة المدعومة بالقوة العسكرية.

كيف سيؤمن أوباما الكلفة المالية لهذه المشاريع، وقد بلغ العجز الأميركي لعام 2008 ما يُقارب التريليون دولار؟

لذلك وجب على العرب وعي مدى القدرة الأميركية، وعدم الركون إلى الوعود كثيرا. من هنا، ضرورة وضع استراتيجية عربية معقولة وممكنة التنفيذ. من هنا تأتي القمة الرباعية كحجر أساس في هذا الإطار. فللعرب قوة طرية كبيرة جدا تتمثل بالمملكة العربية السعودية. وهي تملك القوة الصلبة الكبيرة أيضا، حيث مصر الرائدة في هذا المجال. أما فيما خص ما تبقى، فهو يقع في خانة التفاصيل، إذ لكل موقف ثمن.

* خبير استراتيجي

وعميد ركن متقاعد