ودخلت أبوظبي في «عش الدبابير»

TT

متى نصبح قادرين على كتابة الرواية التي نريد؟ هذا سؤال برسم كل المتهجمين على رواية «عزازيل» التي فازت يوم الأحد الماضي بجائزة «بوكر» العربية في أبو ظبي، وبرسم بعض المدافعين عنها، بسوء طوية، أيضاً. ولمن لم يقرأ «عزازيل» رغم ما حصدته من شهرة، فهي ترصد حياة راهب مسيحي في القرن الخامس الميلادي، يوم كانت المسيحية لا تزال تصارع لتنتشر وتقضي على الوثنية. والراهب الرحالة، بطل هذه القصة، الذي يدعى «هيبا» هو شاعر وطبيب وراهب، يرتحل طلباً للعلم وبحثاً عن ذاته من جنوب مصر مروراً بالإسكندرية وأورشليم وصولاً إلى حلب. وفي غمار رحلاته هذه، يتحول هيبا إلى شاهد، من الداخل، على جرائم يرتكبها المسيحيون، لنشر دعوتهم والقضاء على الوثنية، ويرى بأم العين مشاهد سحل وقتل وتمزيق جثث، فتساوره مشاعر الشك، كما تتلبسه رغبة في الردة إلى وثنيته. وتتطرق الرواية أيضاً إلى الخلافات داخل الكنيسة التي يعاني منها الرهبان حد إحساسهم بالضياع.

ورواية كهذه من المفترض أن تكافأ ـ كما حدث في أبوظبي ـ على أسلوبها ومستواها الفني وإدانتها للعنف بصرف النظر عمن يرتكبه، خاصة أن القارئ لا يستطيع وهو يلتهم الصفحات إلا أن يستشعر كم أن إحساس أي فئة من الناس بصوابية عقيدتها وضرورة فرضها على بقية خلق الله ولو بإزهاق أرواحهم، هو ضرب من الجنون المقزز والمنفر. لكن عالمنا العربي الذي لا يرى إلا بعين واحدة، انقسم أمام هذه الرواية إلى قسمين، فالكنيسة القبطية لم تر فيها غير تهجم عليها وإساءة للمسيحية وتشويه لصورتها، وكان المسلمون ليفعلوا أسوأ مما فعلته الكنيسة بكثير لو أن الكتاب تحدث عن نشر ديانتهم بالعنف والقتل. لكن الظريف في الأمر أن الكثير من المسلمين هذه المرة، وقفوا في الصف الآخر، وتبنوا على غير عادتهم، مبدأ حرية التعبير، ودافعوا عن كاتب الرواية يوسف زيدان. وثمة دفاع عن الرواية يقطر سماً ولا ينمّ عن انفتاح بقدر ما ينضح بالتشفي، وهذا أيضاً مدان. كأن يقول أحدهم: «ها نحن نكتشف حقيقة المسيحية» أو أن يكتب آخر «العجيب أن الكنيسة غضبت من نشر الرواية رغم مطالبتها بتدريس التاريخ القبطي، كأنهم بذلك يرغبون في كتابة التاريخ كما يروق لهم، وإخفاء ما لا يعجبهم. وكالعادة يناقض المسيحيون أنفسهم حين يعلنون دوماً أنهم يؤيدون حرية الرأي». هذا كلام شرير، يصب الزيت على النار، ولا علاقة له بالدفاع عن حرية الرأي. ومن يدّعي احترام الفكر، يوضع على المحك يوم يقبل لنفسه ما يراه مناسباً لأخيه أيضا. والأصل أن تترك للأدب حريته، وألا يرى إليه من ثقب صغير، متعصب، وألا يعامل بانتقائية خبيثة، كالتي نراها اليوم.

نعترف أن الأدب غدّار والأدباء خبثاء، وكل من يعتقد غير ذلك تكون براءته قد خدعته وغررت به، لكن الأدب الحقيقي يعرف كيف يفترس الوقائع والأخيلة برؤية ثاقبة، حاذقة. وأبو ظبي حين قررت أن تخوض مغامرتها الثقافية بالتوازي مع المغامرة الاقتصادية التي شهدتها دبي، لا بد كانت تعرف أنها تدخل «عشّ دبابير»، من الصعب أن تخرج منه دون عقص، وتورمات قد تصل إلى التهابات وتقرحات أيضاً. وإن كان افتتاح فرع لجامعة السوربون قد أثار آراء متباينة، واستجلاب نسخة عن «متحف اللوفر» إلى الإمارة قد فتح نقاشات حول جدوى استيراد فنون وزرعها في غير بيئتها، فإن «جائزة الرواية العربية» ذات الطابع العالمي، المعروفة باسم «بوكر» أدخلت أبوظبي، وستدخلها حتماً في السنين المقبلة، في لعبة الشد والجذب التي لا تعيش الرواية من دونها، ولا يترعرع أدب يانع، ويكسر قيوده إلا في ظلها. وإن كانت الدورة الأولى للجائزة قد مرّت بسلام فإن الدورة الثانية، لم تكن لتمضي على النحو نفسه. فالصدفة شاءت أن تكون الروايات المرشحة للفوز في المرة الأولى بعيدة عن المواضيع الحارقة أو المارقة، على عكس روايات هذه الدورة التي غلب على بعضها المشاكسة واللعب بالنار. وكان من الصعب على اللجنة أن ترضي الشاخصة عيونهم تربصاً بالنتيجة. فلو فاز السوري فواز حداد براويته «المترجم الخائن» التي تشن حملة شعواء على فساد المثقفين وشلليتهم، لقيل إنهم اختاروا رواية انتقامية، ولو اختيرت رواية محمد البساطي أو إبراهيم نصر الله لسمعنا أن الجائزة لا تعطى إلا للمكرسين. ولو وقع الاختيار على الحبيب السالمي في روايته «روائح ماري كلير»، لقيل إن موضوعها ليس فيه من جديد. والحق أن الروايتين اللتين أثارتا اللغط الكثير هما الفائزة بالمرتبة الأولى «عزازيل» ومعها «الحفيدة الأميركية» لزميلتنا إنعام كجه جي. ورواية إنعام رشيقة، لغتها حيوية، ذات إيقاع سريع ومتحفز، نادراً ما تتوفر لكتاب. وهي تدخل في عمق حياة الجنود الأميركيين في العراق عبر بطلتها المجندة العراقية ـ الأميركية التي تخدم في الجيش الأميركي، وتتنازعها المشاعر بين أن تكون في خدمة المحتل لبلادها أو أن تلحق بقلبها الذي يهوى ابن عمها المنتمي إلى جيش المهدي. ولو فازت هذه الرواية لاستثارت حنق الليبراليين الذين وضعوا الكاتبة في عداد العروبيين المتخلفين. ولمزيد من السخرية فإن ثمة من اتهم صديقتنا إنعام أيضا بالدفاع عن الاحتلال الأميركي، وإسباغ لمسات إنسانية عليه، رغم ما ارتكبه من فظائع. لكن الرواية لم تفز وإن باعت وشاعت وترجمت، وأخذت نصيبها من الانتشار.

وبفوز «عزازيل»، وبقاء النتيجة سرية حتى اللحظة الأخيرة، أثبتت لجنة الجائزة أنها جدية ومقدامة أيضا. فالكنيسة القبطية غاضبة من الاختيار وترى فيه تحدياً لها، وتجهّز رداً، على ما علمنا. وهو أمر يفهم في واقعنا العربي المتشنج والمترجرج. لكن الرواية، لمن يقرأ جيداً، تدين كل أولئك الذين يظنون أنهم امتلكوا الحقيقة، ويحق لهم أن يدافعوا عنها بإهدار دم من يخالفهم. وبهذا المعنى فإن جائزة «بوكر» رأت أبعد من غضبة نرجو أن تكون عابرة، ويسجل لأبوظبي أنها بدأت تصبح جزءاً من نقاشات حامية الوطيس، كانت دول الخليج كلها تحاول أن تتفادها. فمبروك لأبوظبي دخولها نادي المشاكسات الفكرية الحذقة من أوسع أبوابه، وإلى الأمام.

[email protected]