لماذا يتشيعون.. وأي تشيع؟

TT

سألت شخصية مغربية مرموقة عن أسباب وخلفيات قطع العلاقات الدبلوماسية بين الرباط وطهران الذي كان مفاجئا للكثيرين، فرد علي بالقول: «قيل الكثير في الأمر، من إساءة التعامل مع القائم بالأعمال المغربي في إيران، إلى التضامن مع البحرين.. بيد أن الذي لا شك فيه أن العامل الرئيسي هو ما أصبح علنيا من تهديد الأمن الروحي للمغرب المرتبط عضويا بالمذهب السني المالكي». ذكر لي محدثي أن المغرب هو حاضن وحامي التقليد السني في منطقة الغرب الإسلامي الممتدة إلى وسط إفريقيا جنوب الصحراء، وقد أدى هذا الدور منذ عهد الدولة المرابطية التي قضت على بقايا المذاهب غير السنية التي كانت لها دول وممالك قوية في المنطقة، وملك المغرب يتميز بأنه وحده من بين حكام العالم الإسلامي الذي يحمل لقب «أمير المؤمنين»، ولذا فإن موضوع نشر التشيع في بلاد القاضي عياض حساس للغاية ولا يمكن السكوت عليه. والحديث دائر بقوة هذه الأيام في المغرب حول الحضور الشيعي الذي يبدو أنه يتمحور في دائرتين:

ـ التشيع العقدي الذي هو ظاهرة محدودة ارتبطت في الماضي بنشاط المدرسين العراقيين واللبنانيين الذين درسوا في المغرب في الستينات والسبعينات من القرن الماضي في سياق إستراتيجية التعريب الشاملة التي تبنتها البلاد. وقد انضافت إلى هذه المجموعات المحدودة دفعات من الطلاب الذين التحقوا في السنوات الأخيرة بالحوزات والجامعات الإيرانية، وعادوا معتنقين للتشيع، فضلا عن تأثير كتب العلماء والكتاب الشيعة التي انتشرت على نطاق واسع في الساحة الثقافية المغربية في الآونة الأخيرة.

ـ التشيع الإيديولوجي الذي نلمسه لدى بعض الحركات الإسلامية التي تأثرت بالأدبيات الفكرية الإيرانية منذ نجاح ثورة الخميني. وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة كانت شاملة في كل بلدان المغرب العربي، إلا أنها انعكست بحدة أكبر في المغرب الذي شهد قيام جماعة «العدل والإحسان» في بداية الثمانينات بزعامة الشيخ عبد السلام ياسين الذي أراد أن يكون «خميني المغرب» وبنى تيارا تنظيميا راديكاليا على غرار الحركة الثورية الإيرانية، كما بلور خطابا مثيرا غريبا على الساحة الإسلامية المغربية يجمع بين نمط المشيخة الصوفية والزعامة السياسية مما حوله إلى ضرب من «المرشد الروحي» على طريقة «ولاية الفقيه». وفي السنة الماضية اعتقلت الجهات الأمنية المغربية بعض الأفراد المتهمين بالتخطيط لعمليات إرهابية، من بينهم وجوه قيادية في حزب «البديل الحضاري» الذي اعتبر قاعدة محلية لحزب الله اللبناني بميول شيعية إيديولوجية واضحة. ولا تزال تفاعلات «خلية بلا عريج» (التي ينتمي إليها المعتقلون) قائمة، لما تتضح كامل خيوطها وخلفياتها.وقد تزامنت القطيعة الدبلوماسية بين المغرب وإيران مع مجهود جلي لإعادة تسيير الحقل الديني، وعيا من السلطات المغربية بضرورة تقديم مادة فكرية بديلة عن المنتوج الثقافي الإيراني الذي غزا الساحة المغربية بقوة خلال الأعوام الأخيرة. سألني محاوري: «برأيك ما الذي يشد شبابنا إلى التشيع الذي هو مذهب غريب على تقاليدنا العلمية والثقافية؟».

ذكرت للصديق أن الظاهرة ليست خاصة بالمغرب بل هي ملموسة جلية في الكثير من البلدان السنية العربية، ولها أسباب عديدة يجب التوقف عندها، مع الوعي الواضح أن الأمر لا يتعلق بالتمايز التقليدي بين مذهبي أهل السنة والشيعة، وإنما بخلفية مغايرة لا تتركز في الرهانات العقدية والطائفية. ومن بين هذه العوامل تتعين الإشارة إلى عاملين رئيسيين نشير إليهما باقتضاب:

أولهما: ضعف المؤسسة الدينية السنية التي تكالبت عليها الأنظمة الحاكمة والتيارات الأصولية، في الوقت الذي ضعفت هياكلها الأصلية من إفتاء وتدريس وأوقاف، ولم تعد منتجة لتقاليد معرفية رصينة، بينما توطدت المؤسسة الشيعية ذات البنية التنظيمية القوية أصلا (لاحظ ارنست غلنر أن السياق الإسلامي مناقض للسياق المسيحي في مسألة التنظيم المؤسسي بحيث نلاحظ أن الطائفة الأساسية أي الأكثرية السنية هشة التنظيم المؤسسي في حين تتمتع الأقليات الطائفية ببناء تنظيمي قوي). بيد أن الأمر هنا يتعلق بمؤسسة شيعية خضعت لإعادة بناء إيديولوجي منذ قيام المشروع الثوري الإيراني (خط ولاية الفقيه) الذي كان في بدايته معزولا داخل الفضاء العلمي الشيعي.

ثانيا: أدت الحركات الإسلامية السنية دور البيئة المستقطبة للفكر الشيعي المعاصر الذي أرادت الانفتاح عليه خارج المعادلة الطائفية. ولهذا الانفتاح سببان: إيديولوجي يتعلق بالتقارب الذي حصل تدريجيا بين مدرسة الإخوان المسلمين واتجاه ولاية الفقيه، وسياسي يتعلق بالمواقف من القضايا الإقليمية والدولية مما يبرز جليا في المكانة الكبيرة التي يتمتع بها حزب الله اللبناني لدى التيارات الإسلامية السنية.

وكانت صيحة القرضاوي المحذرة من «المد الشيعي» لفتة ذات دلالة في بعض صفوف المؤسسة السنية، بيد أن ما فات الشيخ الإخواني هو أن الخطر ليس من مد شيعي عقدي لا خوف منه، وإنما من «التشيع الإيديولوجي والاستراتيجي» الذي يخضع لرهانات سياسية وجيوسياسية لا مذهبية أو عقدية.