مناير مصر

TT

حدثني أحدهم قائلا: كنت أدرس في السبعينات بأمريكا، وتحديداً في ولاية (ألباما).. وفي أحد الأيام كنت أقود سيارتي في الريف وبجانبي صديق أمريكي يعمل في البورصة، وتعجبت منه عندما وصلنا إلى مكان معين أن يطلب مني بإلحاح أن أهدئ السرعة.

وفعلا امتثلت لطلبه، ثم طلب أن أنحرف لليمين قليلا، وبعدها فتح زجاج النافذة وأخرج رأسه، وصاح بصوت مرتفع قائلا: عشرة وثلاثة أرباع.

فتحول عجبي إلى شك، وأوقفت السيارة نهائياً، معتقداً أن هذا الأمريكي قد أصابه خلل في عقله، إذ لا أحد في المكان لكي يخاطبه بهذا الصوت العالي.

وعندما استوضحته وشاهد اندهاشي، أخذ يضحك وهو يشير لقبر منفرد مسوّر على حافة حقول القطن، وهو لا يبعد عنا أكثر من عشرة أمتار، وقال:

إنني أعرف صاحب القبر هذا، وسبق لي أن ارتبطت معه ببعض الأعمال، وهو من مزارعي القطن، ومن (المدمنين) على تتبع أخبار البورصة ومن المضاربين بها، وكان دائم القلق والتوتر والسؤال عن آخر الأسعار، حتى إننا نحن أصحابه قلنا له مازحين: إننا نعتزم عند موتك أن ندفنك إلى جانب الطريق، وإذا مررنا بك سوف نبلغك بالأسعار أولا بأول فلا تقلق فلن يفوتك شيء.

طرحنا عليه هذه الفكرة يوماً ونحن متحلقون في أحد البارات نشرب العصيرات في ليلة شتائية باردة، ويبدو أن هذه الفكرة قد راقت له واستحسنها، لأنه في اليوم الثاني أحضر محاميه وكتب وصيته، وحدد مكان قبره، وأكد على أصحابه بالالتزام بما وعدوا به.

ولم تمض ثلاثة أعوام على كتابة الوصية حتى مات.

وهكذا دأبنا، نحن أصحابه، على تنفيذ رغبته بما وعدنا به، فكلما مر أحدنا بجانب قبره لا بد وأن يخبره بآخر ما وصلت له أسعار القطن في البورصة، وهذا هو ما فعلته اليوم.

قلت له: أنت ذكرتني بحادثة تقترب من هذه الحادثة من ناحية موضوع (الوصية) فقط، ولكنها تختلف وتبتعد عنها بوناً شاسعاً من حيث الجوهر.

والحكاية وما فيها أن رجلا بدويا وشاعرا، قدر له في أواخر الثلاثينات الميلادية أن يذهب إلى مصر، وإلى القاهرة تحديداً، فشاهد ما لا عين له رأت، ولا أذن له سمعت، ولا خطر على باله قط.

وكان الواحد من أهل الجزيرة العربية في ذلك الوقت إذا أراد أن يضرب المثل في حسن ما رأى يقول: (كأنني أشاهد مناير مصر)، وعندهم أن ذلك هو قمة الجمال والإعجاز، ومعهم حق، حيث إن الجزيرة كانت تعيش في فقر مدقع وجهل مطبق.

أخونا بالله الشاعر البدوي (زغللت) عيناه من هول ما رأى في القاهرة، فتفتقت قريحته بقصيدة أهم ما فيها بيت من الشعر يوصي به ويقول: إن مت في شارع فؤاد ادفنوني / ياطن على قبري البني المزايين.

وترجمتها أنه قال: إذا توفيت أرجوكم احفروا لي قبراً في رصيف شارع فؤاد، من أجل أن كل فتاة جميلة تتمخطر في هذا الشارع، سوف تدوس على قبري بقدميها الرائعتين.

الفرق بين تاجر القطن الأمريكي، والشاعر البدوي، أن الأول قد تحققت وصيته، أما الثاني فقد مات متحسراً، وحفروا له في صحراء (نضى) ودفنوه فيها، واليوم لا تطأ على قبره غير الجرابيع والثعالب.

[email protected]