المسوا نسيج (الانفراج العربي).. واعرفوا قدر نسّاجه

TT

يفصل بيننا وبين القمة العربية المقبلة في الدوحة نحو أسبوع تقريبا.. ومهما يكن من أمر أجندة أي قمة، فإن النجاح الكبير أو النسبي ليس مشروطا بالأجندة بقدر ما هو مشروط بـ«المناخ» الجيد الذي تعقد فيه، ذلك أنه في مناخ غير صحي: تصبح القمم العربية أداة لمزيد من التمزق والشقاق. وهذا تنكيس للمقصد الأكبر من أي قمة: مقصد الوئام، وتوثيق العرى، والتنفس الصحي في جو موضوعي واخوي: ابتغاء الوصول إلى تفاهم أوثق، وتعامل أنفع، أو على الأقل تعامل تتراجع فيه الظنون السيئة إلى أدنى مستوياتها.

فهل المناخ أصبح مناسبا للقمة العربية القادمة في الدوحة؟

إن الجواب عن هذا السؤال يثوي في تصور العكس أو الضد الذي كان سائدا منذ قليل. في العامين الأخيرين ـ مثلا ـ كانت (الصورة العربية العامة) على النحو التالي: تضاد في الإرادات والمواقف العربية (راجع مناخ قمة دمشق مثلا).. وتقسيم الدول العربية إلى دول معتدلة ودول متطرفة (أو ممانعة) ـ للتلطيف والتخفيف ـ !!.. وتباعد في المواقف في حالة قومية عامة لا يجوز فيها التباعد قط وهي حالة العدوان الصهيوني على غزة.. وحسرة قاتلة اعتصرت أفئدة الشعوب العربية.. وحملات إعلامية غير مسؤولة تراوحت بين السفه والجنون.. وضياع القضايا السياسية العربية بوجه عام.. وحدوث صدوعات هائلة في الأمن القومي العربي تمثلت في فراغ تقدم لملئه آخرون: من هنا وهناك وهنالك.

هذا هو المناخ النكد التعس الذي كان سائدا.. وكان من العسير أن تنعقد قمة كاملة وتنجح في مثل هذا المناخ الذي يوحي كل شيء فيه بسوء الظن، والتربص، والخيبة والفشل.

بيد أن هذا المناخ قد زال، أو تراجعت غيومه وسوافيه وصواعقه تراجعا ملحوظا.

مَن وراء هذا النجاح النسبي في الشأن العربي العام؟

وراءه ـ بعد توفيق الله تعالى ـ رجل اسمه الملك عبد الله بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية.. وقد كانت البداية في قمة الكويت الاقتصادية.. ففي تلك القمة المكفهرة بكل ما يحبط وينذر بما هو أسوء: ألقى الملك عبد الله خطابه المضمد للجراح العربية، والمتسامي فوقها، كما نهض بدور المصالحات التي ليّنت المواقف، وحسّنت العلاقات.. ولندع الأستاذ عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية يدلِ بشهادته القومية عن المفارقات (بين مناخ النكد والإحباط ومناخ الانفراج والتصالح) فقد قال: ((أذكر أنني قلت في الكويت: إن السفينة العربية تغرق حيث إن الثقوب كثرت. وعندما وصل خادم الحرمين الشريفين إلى الكويت قال لي: إن السفينة العربية لن تغرق، وسوف نصلح الأمور إن شاء الله، وفي اليوم نفسه ألقى خطابه، وأعلن مبادرته، وهي في الحقيقة التي بدأت في تحريك الأمور.. لقد خضنا أياما عصيبة في الفترة الماضية، خاصة بعد العدوان على غزة. وبدا الموقف العربي مضطربا متشنجا متشرذما وهو الأمر الذي أدخل السرور على أعداء الأمة العربية في داخلها ومن خارجها. ولكن الحمد لله فقد مر الأسوأ، ونحن الآن مهيئون لفترة واعدة لتجاوز خلافات الماضي القريب، والاستعداد لفترة جديدة تقودنا على طريق التفاؤل في العودة إلى مسيرة العمل العربي المشترك، والفضل في ذلك يرجع ـ بوجه خاص ـ إلى جهود خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وإلى روح التعاون الذي تبدى في قمة الرياض الرباعية)).

ولذا فإن الإعلام السعودي مدعو إلى النهوض بمسؤوليته وأن الإعلام العربي المنصف مدعو إلى أداء واجبه تجاه الحراك القومي الذي يقوده رجل اتسع صدره لهموم أمته، وأرّقه ما آلت إليه شؤونها من انحدار وشقاق وهوان.

ونحن نعلم انه لا يحتاج إلى الإسراف في المدح فهو صاحب مقولة (إن السعودية ليست في حاجة إلى المزيد من التيجان على رأسها)، بيد أن المواقف الكبيرة المنقذة يتوجب أن تُعرف وتُقدر كما ينبغي المعرفة والتقدير.

لماذا؟

أولا: لأن هذا التقدير يتعلق ـ قبل أي شيء آخر ـ بعقل وخلق من يباشر التقدير، بمعنى انه من العقلانية الراشدة، والخلق الرفيع: تقدير من ينهض بأعمال عربية جليلة، ولا سيما في حقبة تَبَارَى فيها أعداء خارجيون، ومرجفون في الداخل على (نعي الأمة العربية) من خلال التفنن المستميت في رصد سلبياتها ونقائصها والتركيز عليها فحسب. فدور العقل هنا: إدراك ما في الحراك العربي الصادق من مصلحة لجميع العرب.. أما دور الخلق فهو ما جلاّه الحديث النبوي الشريف: ((لا يشكر الله من لا يشكر الناس))، بل ان شكر الناس هنا إذ يتضمن معنى أخلاقيا ساميا، فإنه يقترن ـ في الوقت نفسه ـ بتوحيد الله عز وجل أيضا، ذلك أن شكر الله من أدق خصائص توحيده تباركت أسماؤه وصفاته.

ثانيا: لأن هذا الموقف السعودي الراهن مرتبط بمواقف المملكة وتاريخها السياسي بإزاء القضايا العربية (كالقضية الفلسطينية.. وقضية استقلال الدول العربية عن الاستعمار.. وقضية دعم التنمية والإعمار في الوطن العربي).. ولقد تأصّل هذا الموقف (دستوريا)، وهو تأصيل يعني أنه (دائم) لا (موسمي).. لنقرأ المادة 25 من النظام الأساسي للحكم التي تقول: ((تحرص الدولة على تحقيق آمال الأمة العربية والإسلامية في التضامن وتوحيد الكلمة)).. ثم هو موقف يدل ـ بوضوح وحسم ـ على استقلال القرار والموقف السعودي، فلو فكرت السعودية على النحو التالي: هل تُرضي مواقفنا هذا الطرف أو ذاك من القوى الدولية أو الإقليمية أو تغضبهم: لما أقدمت على هذا العمل الكبير المفعم بالتحديات من كل نوع، والذي يبدو كثيرا أنه سباحة ضد التيار الجارف، أو بث على موجة مختلفة.. واستقلال القرار والموقف السعودي له (جذوره الراسخة) التي امتدت بتأثيرها في العهود كافة: بدءا بعهد المؤسس الكبير عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود.. ومن تلك الجذور أن الملك عبد العزيز أصّل هذا التوجه المستقل الحر بقوله ـ مثلا ـ: ((لست ملكا بمشيئة أجنبية، بل أنا ملك بمشيئة الله ثم بمشيئة العرب (أي السعوديين) الذين اختاروني وبايعوني))، وليس ثمة حرية أقوم ولا أعز ولا أوقر ولا أجمل من (حرية المشيئة)، إذ منها ينبثق القرار الحر المستقل، والموقف العزيز المبتدر.

ثالثا: لأن هذا الموقف يتعين أن يكون مدخلا سياسيا واستراتيجيا لتحويل العرب إلى (قوة نوعية) إلى جانب أنهم (قوة كمية).

إن الخلل الاستراتيجي الضخم في الصراع العربي ـ الإسرائيلي هو: أن إسرائيل (قوة نوعية) مقابل (قوة كمية عربية).. وهذا التفاوت الرهيب أدى إلى تفوق 16 مليون يهودي، بل أقل من ذلك (بحسبان أن ليس كل اليهود صهاينة)، أدى إلى تفوق هذه الملايين القليلة من الصهيونيين على 350 مليون عربي.. ونقصد بـ (القوة النوعية العربية الجديدة) تلك التي تعطي الكم العربي مضمونا سياسيا واستراتيجيا أذكى وأعلى.. نقصد بها: القوة النوعية: الاقتصادية والعلمية والسياسية والفكرية والثقافية والإعلامية.

رابعا: إن هذا الموقف السعودي ـ الذي يقوده الملك عبد الله ـ يمكن أن يؤدي ـ بالإخلاص والذكاء والعمل المثابر ـ إلى (ترسيخ) الحقيقة التالية في عقول القوى الدولية والإقليمية: حقيقة أن العرب ـ بتضامنهم ـ يمكن أن ينفعوا كما يمكن أن يضروا.. وهذه ورقة استراتيجية حاسمة في عالم ضعيف الخلق والضمير ـ ولا سيما في المجال السياسي ـ: عالم يتحرك بدوافع الخوف على مصالحه، أكثر مما يتحرك بالأريحية والحياء.. فحين يقال (الوطن العربي) ينبغي أن تعلم القوى المؤثرة في عالمنا وعصرنا: أن هذا المصطلح يساوي 350 مليونا من البشر، ينتشرون ويتحركون فوق مساحة جغرافية تبلغ 15 مليون كلم مربع أو يزيد، تتمدد في قارتين كبيرتين هما آسيا وأفريقيا، وهي مساحة ملأى بالطاقات المادية المتنوعة، يضم إلى ذلك: الطاقة العظمى ـ بلا منازع ـ: الطاقة الروحية أو طاقة الإيمان والإسلام.

لذلك كله، يتعين على كل ذي عقل وضمير من محبي هذه الأمة: تقدير هذا الحراك السعودي الذي (حرّك) الهمود العربي. فلئن كان الملك عبد الله هو الذي ابتدر هذا الحراك فهو إنما يعبر بذلك عن الشعب السعودي الذي فوضه القيام، وهو شعب تتخلل شعوره سعادة غامرة بهذا الحراك، وهذا الدور الأصيل الجميل النبيل.