مأسسة الطائفية

TT

من الانتقادات التي توجه للنظام السياسي العراقي ما بعد التغيير، أنه نظام يقوم على الطائفية، وفي وجه هذا الانتقاد يقف تبرير موضوعي لذلك بكون أن المكونات والطوائف همشت، وبأن الهويات الفرعية منعت من أن تعبر عن نفسها، وبالتالي ما بدا من بروز لاحق لهذه الهويات، هو تعبير طبيعي عن وجودها بدل الحالة الواهمة والقسرية التي طمستها، كما أن هذا عصر بروز ونهوض الهويات الفرعية ومجتمعات متعددة الثقافات أينما اتجهت في عالمنا والعراق ليس بدعاً في ذلك، ولكن الذي يرد بأن هذا يتم بفعل أصحاب التوجه الأصولي في الأديان أو المذاهب الذين يعملون ويتمنون كبح كل هويات الفرد الأخرى لمصلحة هوية واحدة فقط، إنه تضييق لإنسانيتنا عندما تختزل اختلافاتنا أو هوياتنا تحت تصنيف واحد قوي منفرد، فالشخص قد يكون مسلماً ولكنه أيضا وفي الوقت نفسه له مواطنية محددة أي ينتمي لدولة وله خصائص عرقية، ولغوية، وينتمي إلى طبقة، وله مكانة اجتماعية ومهنة ينخرط فيها وهو يوالي مذهبا سياسيا، فالبشر لديهم مساع ومسالك مختلفة في الحياة، وبالتالي لا ضرورة لأن تكون كل أولوياتهم وقيمهم تصنف تحت الهوية المفردة بكونهم مسلمين أو مسيحيين أو لعرب أو كرد أو لسنة أو شيعة، فالأفراد هنا يوضعون عنوة في مجالات الانتماءات المفردة دون أن تكون لديهم القدرة على إدراك أو تفضيل أي الهويات المختلفة التي ينجذبون إليها أو يريدون أن يصنفوا وفقها، حيث غالباً ما يتحرك هذا التصنيف وفق الزمان أو المكان وليس جامداً واحداً مفروغاً منه ومحسوماً، فإن هويتي الرياضية تتقدم عندما أكون في ملعب، واللغوية حينما أحضر محاضرة في اللغة، والدينية عندما أرتاد المسجد، والأدبية في محفل شعري، والنقابية عند استحصال الحقوق، والهوية السياسية في زمن الانتخابات، وهكذا..

لكن الذين ينتقدون النظام السياسي العراقي بكونه طائفيا لا يحفلون بجدل الهويات أعلاه، كما أنه حان لنا الرجوع عن الجنوح النظري إلى واقع السياسات، حيث تواتر الرأي وشاع وقارب أن يرسخ بل وبات أشبه بالبديهية التي لا تريد أن تمتحن، بأن الطائفية في العراق قد تمأسست سياسياً، وهنا المخاوف تجد لها مقارباتها المجسدة في فشل النظام السياسي اللبناني لكونه قائم على الطائفية ولا تنفع معها الرغبة الرمزية في الخروج منها بمنح وزير الداخلية اللبناني مؤخراً الحق للمواطنين في شطب الطائفة من بطاقة الهوية، فتقاس المناصب الكبرى في العراق على مثيلاتها اللبنانية، بكون الرئيس العراقي كردي ورئيس وزرائه شيعي ورئيس برلمانه سني بمقاربتهم بالرئيس اللبناني الماروني ورئيس الوزراء السني ورئيس البرلمان الشيعي نزولا إلى قائد الجيش وحاكم المصرف إلى التوزع الطائفي لباقي الوظائف الرئيسية، وبالتالي هي أخذ العراق للحالة اللبنانية التي ثبت خطلها وانسدادها.

الذي يطمئن وبحدود، أؤكد بحدود، أن الدستور العراقي لا يتضمن بالمطلق أي توزيع محاصصي لأي وظيفة من الوظائف، فرئيس الدولة نص بأنه يختار بأغلبية ثلثي أعضاء البرلمان، وأريدت هذه النسبة لفترة انتقالية ولتحقيق التوافق، وبالتالي التطمينات للكتل السياسية الكبيرة، والذي حدث للآن أنها الممثلة للمكونات الرئيسية. أما منصب رئيس الوزراء وهو الرئيس التنفيذي للدولة، فإن الدستور ينص على أن يكلف رئيس الدولة الكتلة البرلمانية الأكبر بتشكيل الحكومة، وهذه كما هو بين متحركة وممكن أن تذهب لأي اتجاه سواء إلى اليمين أو اليسار أو لشيعة أو سنة أو لعرب أو كرد أو لأي ائتلافات حزبية قادرة على حيازة الأغلبية، وبالتالي فإن حصول الشيعة على منصب رئيس الوزراء ليس لأكثرية عددية أو لتعويض غبن إذ أن لا قيمة للعدد الذي إذا افترض بأن هناك ضبطا انتخابيا يتطابق كلياً مع خارطة المكونات، فإن ذلك لن يجدي إلا إذا تم اختيار رئيس الوزراء بالانتخاب المباشر من قبل الجمهور، وهذا لا يمكن في النظام البرلماني الذي أخذ به العراق دستورياً ولا في ظل أنظمته الانتخابية، بل تم لأن الكتلة البرلمانية التي تمثل الشيعة كانت عند تشكل البرلمان هي الأكبر.

المناعة الثانية بعد الدستور هي المرجعيات الدينية، التي كان من الممكن أن تسهم في تكريس الطائفية لطبيعة دورها كحرس على مصالح أتباعها، فوجدنا العكس في الحالة العراقية إذ مثلت وعياً ومنهجاً متقدماً على الطبقة السياسية في استشراف مخاطر التطيف السياسي وقبلها المجتمعي، وهنا يمكن إيراد مثالين يسمح بهما هذا الحيز عن منهج أهم مرجعية تأثيراً في المشهد العراقي وأعني بلا شك مرجعية السيد السيستاني، قد شهدت واطلعت عليهما، ففي لقاء له مع ممثلي كتلة الائتلاف قبل أكثر من عام وأثناء تأكيده بضرورة ملء الوزارات الشاغرة التي انسحب منها الصدريون لتيسير مصالح الناس، فكان يحثهم على أن هذه الوزارات الخمس رغم أنها من حصة الائتلاف الشيعي فإن عليهم أن يقدموا المثال بأن يختاروا من خارجهم طائفياً ودينياً وبأن يختاروا وزيراً مسيحياً لكسر الصورة والحدة الطائفية، فكان يقول لهم عندما يمرض ابنك تختار له الطبيب الأفضل دون أن تسأل عن دينه ألا يستحق العراق أن تعاملوه كأبنائكم، والثانية عندما سئل قريباً من قبل مسؤولين حكوميين في التهيؤ لإجراء الإحصاء العام للسكان المقرر في نهاية هذا العام عن رأيه في وضع الطائفة في البطاقة الشخصية، فرفض ذلك بل رفض حتى استبيان ذلك ولو كان لأغراض إحصائية.

الحائل الثالث والمعول عليه هو النسيج المجتمعي الذي عرف بأنه متداخل مذهبياً منذ آماد بعيدة لذا فإن طبيعة الأشياء لا يمكن أن تجعل للطارئ الثبات، كالتخندق الذي أنتجه ظرف العنف أو التوظيف الخارجي الذي استغل الهشاشة الداخلية أو الاستثمار السياسي في التعصب، ثم الأهم هو الفرد الذي هو الإرادة الفاعلة في الديمقراطية والذي لا يمكن لمجموعة هوياته المتعددة أن تختزل بواحدة ولا لحاجاته الحياتية أن تلغى أو تتراجع لأجل رمزية طائفية بالنهاية لا تغني ولا تسمن.