من روسيا.. مع حبي

TT

أطرف ما قرأت هذا الأسبوع عبارة تقول: «ابتسم، فالابتسامة هي الوسيلة الأقل تكلفة لتحسين ملامحك». والأطرف من العبارة ذاتها أنها صيغة إعلان مصور يقرأه سكان موسكو وزوارها في أماكن متفرقة من المدينة.

ولا أدري لماذا ذكرتني هذه المعلومة بأن معلمات المدرسة كن يوبخن التلميذة التي يضبطونها متلبسة بالضحك أو الابتسام بدون سبب واضح. والسبب في ذلك هو اعتقاد عام بأن الضحك من غير سبب قلة أدب.

زوار روسيا من الأميركيين يعتبرون أن الشعب الروسي شعب عابس. فمن النادر أن تلمح عابر سبيل في الطريق العام وقد اكتسبت ملامحه سماحة الابتسامة. وقد يفسر ذلك على أنه إحساس عام بعدم الرضا عن الأحوال في روسيا، ولكن الحقيقة غير ذلك، وفق ما اكتشفه علماء النفس. فقد دلت الأبحاث على أن الفرد الأميركي قد يبتسم في الأماكن العامة، ولكنه نادرا ما يبتسم حين يخلو إلى نفسه. ولكنك إذا زرت روسيًّا في بيته، وقبلت دعوته على العشاء مثلا؛ رأيته سعيدا مبتسما، وقد يرفع عقيرته بالغناء، أو يتطوع بأن يحكي لك حكاية طريفة.

والسبب في ذلك هو ثقافة تفرق بين العام والخاص. في الأماكن العامة يطلب من الروسي أن يحيِّد مشاعره الشخصية، ولذلك يبدو وجهه وكأنه ارتدى قناعا بلا تعبير، خاصة في وجود الآخرين. وهي ثقافة تهدف إلى ترسيم الحدود بين الأصدقاء والأغراب. هذه الحدود تلغى في الثقافات القابلة للحركة والتطور مثل الثقافة الغربية، حيث يمكن أن تربطك علاقة مع أي شخص يصادفك في الحافلة، أو في الطريق، ويمكنك أيضا أن تنهي العلاقة بالقدر نفسه من السهولة. وربما يكون ذلك هو السبب الذي يوحي للأميركي بأن الروسي عابس الوجه، رافض للألفة والصداقة.

ويعزو بعض الباحثين ميل الروس لإلغاء الابتسام كسلوك اجتماعي في جميع الأوقات إلى أن الأراضي الروسية شاسعة، وبناء عليه فإن الأرض فرضت العزلة على الفرد الذي يمشي وحيدا في الحقول والبراري. ولذلك، لم تعد لديه دوافع لتوزيع الابتسامات علي سبيل المجاملة، إنْ لم يكن هناك من يجامله. وبالتدريج أصبحت النظرات الجادة والملامح الصارمة جزءا من التركيبة النفسية الاجتماعية. وأصبح من غير المعتاد أن يبتسم لك الناس في الشارع، أو أن يبتسم لك البائع أو البائعة في محل تجاري على سبيل تشجيعك على الشراء أو حتى كتعبير عن الود، لأن المحل التجاري هو مكان عمل، لا مكان لتبادل المجاملات، أو اللفتات الإنسانية.

مهما كانت الحقيقة، فإن الابتسامة هي حقا الوسيلة الأقل تكلفة لتحسين ملامح الوجه، وتذويب جليد العرف بين الأفراد. فهي دعوة مفتوحة لتبادل الود والثقة، وهي أيضا وسيلة مجانية لإحساس جميل بأنك موصول، لأنك جزء من مجموعة تفهمك بدون احتياج للكلام. والدليل على ذلك أنك لو ابتسمت لطفل رضيع، ونظرت إلى عينيه نظرة مباشرة؛ سوف يبادلك النظرة بمثلها، ويتمهل لاستيعاب نواياك التي تعلنها ابتسامتك؛ وفي النهاية يكافئ الابتسامة بأفضل منها.

بعد أن تفرغ من قراءة هذه السطور، أجب عن السؤال التالي: هل تشجعنا الثقافة العربية على الابتسام، أم تشجعنا على نقيضه؟

قبل أن تجيب، تذكر وجوه الملوك والرؤساء والمسؤولين التي تطالعنا صباح مساء وليل نهار على شاشات التلفزيون، وتذكر مَنْ منهم العابس، ومَنْ المبتسم!.