نظرة أخرى على أطلال محمود

TT

بدأت في الغرب، منذ غياب الشاعر في آب الماضي، جهود أدبية منهجية علمية جدية وجديدة، لإلقاء نظرة تكريمية أخرى على محمود درويش، شاعراً ورمزاً وطنياً، وصاحب موقع ومكانة في الأدب العربي الحديث. وظهرت في دور النشر الجامعية ترجمات عدة لأعمال شاعر فلسطين، بعضها بأقلام كتاب عرب مثل الزميل منير العكش والزميلة أميرة الزين (جامعة سيراكيوز، نيويورك، وجامعة كاليفورنيا) وبعضها على أيدي باحثين ونقاد غربيين، افتتنوا بشعر محمود وبشخصيته وبسيرته الحافلة، الكثيفة، غير الطويلة.

وقد شاء قدر الشاعر النبيل أن يعيش حياته كسير القلب، حزينه، وأن يموت مفتوح القلب، بجرح لا يلتئم، في التكساس، كأنما لمأساة التشرد والحنين قواعد لا تخرق. لكن الجثمان عاد إلى رام الله، من أجل أن يمرَّ به الفلسطينيون واجب الوداع الأخير، كأنما لكي تنفذ وصيته المحزنة (ذاكرة للنسيان) عندما كتب أنه يريد جنازة بنعش أنيق من أجل أن يتمكن من مراقبة المشيعين.

كان يومها (1986) يصف يوما هائلا من أيام الهجرة الثانية. يوم اجتاح أرييل شارون بيروت لكي يقتلع الفلسطينيين ويجز جثث أطفالهم ويترك، هو وبعض سقطاء لبنان، توقيعه على بحر اليتم والأسى والعذاب في صبرا وشاتيلا. وكان محمود قد هاجر إلى لبنان من قبل طفلا، مع أهله، من قرية البروه، العام 1948، سنة الهجرة الأولى. لكن العائلة عادت بعد عام، فوجدت أن القرية أزيلت عن الأرض، ولم يبقَ لمحمود درويش سوى أطلال يكتب لها الشعر فيما بعد، مع بقية أطلال العرب والشعراء. وهل لنا سوى أطلال وتباكٍ، منذ أن خطر لامرئ القيس ذلك البيت الشهير وهو في الطريق إلى ملك الروم، ليساعده على استعادة ملكه؟

الأطلال، هي المكان، أو المكان الضائع، أو الذي نعود إليه فلا نجد سوى بقاياه، في الرمز وفي الحقيقة. وعندما عاد محمود درويش إلى فلسطين وعندما تركها وعندما عاد إليها من جديد، لم تكن سوى طلول فقدت زواياها واقتلعت العاصفة أسسها. ولم يستطع أن يتعلم، كما نصح ناجي الطلليين «كيف تنسى، وتعلم كيف تمحو». أليس ناجي هو القائل أيضاً «وإذا ما التأم جرح/ جد بالتذكار جرح»؟

اختلفت أطلال محمود درويش عن كل أطلال أخرى. ما من خولة هنا، وما من ليلى يقول مجنونها: أمر على الديار ديار ليلى/ أقبل ذا الجدار وذا الجدار/ وما حب الديار شغفن قلبي/ ولكن حب من سكن الديار.