الحل «مش في الحل»

TT

مرة أخرى يحل أمير الكويت البرلمان، ولن يكون هذا هو «الحل» الأخير. الإمارة الكويتية الصغيرة، بلا شك، تستحق استقرارا أفضل يليق بسمعتها كديموقراطية ناشئة، أما أن تستقيل الوزارة كل أربعة أشهر، ويحل البرلمان كل عام، فهذا أمر يشير إلى أن هناك خطأ جوهريا في بنية الديموقراطية الكويتية، يحتاج إلى حوار جاد حول تغيير بنيوي في هيكلية النظام السياسي الكويتي. وليسمح لي الأخوة الكويتيون في أن أطرح عليهم تصورا جديدا للحكم، قد ينفع أن يدور حوله هذا الحوار. التصور يتلخص في تبني نموذج آخر لعلاقة أسرة الحكم بالشعب، ليس من خلال مجلس واحد كما هو الحال، الذي يتسبب في هذه الأزمة المتكررة كل أربعة أشهر أو خمسة، وإنما من خلال إنشاء مجلسين: المجلس الأول هو البرلمان، (مجلس تشريعي)، ويكون منتخبا انتخابا مباشرا من كل الكويتيين، على أن تكون الكويت كلها دائرة انتخابية واحدة بدلا من خمس دوائر كما هو الأمر الآن. والمجلس الثاني (المجلس الأعلى) Upper House، هو مجلس معين من أعيان البلد من التجار والمثقفين وشيوخ القبائل، وسآتي على تفصيل ذلك لا حقا. لا أعتقد أن الكويتيين سينزعجون من نقاش جاد حول مستقبل الاستقرار في بلد عزيز علينا جميعا، كما أن الأفكار التي أطرحها هنا ليست بغائبة عما يدور بأذهان كثير من الكويتيين. ففكرة أن تكون الكويت كلها دائرة انتخابية واحدة تم نقاشها في السابق، وكانت مطبقة بالفعل قبل تقسيم البلد إلى دوائر متعددة. لكن فكرة الدائرة الواحدة أساسية وملحة اليوم، للحد من دور القبيلة ودور الطائفة، اللتين أصبحتا اليوم سمتين أساسيتين من سمات الحياة السياسية الكويتية. إنما الفكرة الإضافية التي يطرحها هذا المقال، التي أتمنى أن تحظى بقدر جاد من الحوار، هي فكرة أن يكون في الكويت مجلس ثانٍ (المجلس الأعلى) UpperHouse، أو مجلس الأعيان، مجلس يعين من التجار والمثقفين وشيوخ القبائل، فتكون مصلحة الكويت الإستراتيجية نصب أعين أعضائه، الذين لا تتنازعهم الأهواء الانتخابية.

لدينا أزمة دولة في العالم العربي عموما، وفي الخليج خصوصا، كما ذكرت في مقال سابق، مستعيرا مثال المصعد الكهربائي، فهناك مواطنون صاعدون إلى طوابق ما فوق الدولة: إلى الخلافة الإسلامية، وهناك من هم هابطون إلى طوابق ما تحت الدولة: القبيلة والعشيرة، أما الطابق الذي توجد فيه الدولة فلا يتوقف عنده المصعد. يسمى في مصر بالدور المسحور، وفي الغرب بالميزانيين (mezzanine). التحدي أمام الدولة العربية، هو إعادة ترتيب حركة المصعد بحيث يصبح طابق الدولة هو الذي يقصده الجميع، ملتزمين بمبدأ الدولة والمواطنة. الدولة الخليجية الحديثة والمأزومة تلزمها إستراتيجية للتعامل مع سؤال الهوية والمواطنة. يلزمها التوازن والتصالح في أن تكون كويتيا أو إماراتيا أو سعوديا أو قطريا، وتنتمي في الوقت ذاته إلى قبيلة كذا، وأن تكون سعوديا أو كويتيا أو قطريا أو إماراتيا وتنتمي في الوقت ذاته إلى طائفة الشيعة أو السنة أو التنظيم الدولي للإخوان المسلمين.

تفردت دولة الكويت بين دول الخليج من خلال تجربتها الديموقراطية في إدخال القبائل والطوائف إلى البرلمان. ولكن هل تصرف هؤلاء كمواطنين يكون ولاؤهم الأول للكويت كوطن؟ بكل أسف، وضعت المواطنة في الدرجة الثانية والثالثة بعد الولاء للقبيلة والطائفة والجماعة. ولكن عندما تصبح الكويت دائرة انتخابية واحدة، ستختلط القبيلة والطائفة وأيديولوجيات العروبة والإسلام في بوتقة واحدة هي بوتقة الوطن. والمستغرب في حالة الكويت، أنه رغم تجربة الاحتلال القاسية التي مر بها في عام 1990، التي وحدت الكويتيين جميعا وقتئذ، إلا أن فكرة المواطنة تبدو اليوم غير متجذرة لديهم، أو لنقل إنها غير ناضجة بالقدر المطلوب.

نقطة أخرى مهمة في تصور الحل للأزمة السياسية المتكررة في الكويت، هي وجود المرأة في العمل السياسي العام. لذا فبرلمان كويتي منتخب من الكويت كدائرة واحدة، وتخصص فيه نسبة ما لا يقل عن عشرة في المائة للنساء بما يسمى «التمييز الإيجابي» Affirmative Action . هذا المفهوم عندما طبق في الولايات المتحدة الأميركية أعطى الأميركيين الأفارقة الفرصة كي يكونوا جزءا من الحل، لا جزءا من المشكلة، بمعنى أن الوظائف التي كان يحتلها البيض بمجملها كان لا بد أن يكون فيها بعض السود كحالة من التوازن، وكي يبدو مكان العمل إلى حد ما شبيها بالمجتمع. المجتمع الكويتي فيه نساء بلا شك، ولكن لا نرى نساء في البرلمان. جزء من التعامل مع الأيديولوجية الإسلامية السائدة، وكذلك مع أيديولوجية القبيلة الرجولية، التي يسد فيها الرجل، هي وجود المرأة في البرلمان بحجم يخلق توازنا في البرلمان.

هذه هي الجزئية الأولى من تصوري للحل. أما الجزئية الثانية فتكمن في وجود مجلس آخر معين من أعيان البلد (المجلس الأعلى)، من التجار والمثقفين وشيوخ القبائل. مجلس حكماء يأخذ بعين الاعتبار التركيبة الاجتماعية للكويت، أشبه بمجلس اللوردات في النظام السياسي البريطاني، أو مجلس الأعيان في النظام السياسي الأردني، وفي مصر أيام الملكية. بصيغته الخليجية، قد يكون المجلس الأعلى هذا أشبه بمجلس الشورى السعودي، الذي يمثل النخبة من حكماء البلد. لضرورة نجاح هذا المجلس المقترح، يجب أن يتمتع هذا المجلس بالصلاحيات التي تجعله شريكا للمجلس التشريعي المنتخب (البرلمان)، في رسم مستقبل الكويت، من خلال سياسات تمثل إجماع كل مكونات المجتمع الكويتي.

ولكي تتضح الصورة، أضرب مثلا من واقع الحياة السياسية الكويتية، وهو حالة استجواب رئيس الحكومة المتكررة، التي أدت دائما إلى حل البرلمان واستقالة الحكومة. في التصور الجديد، إذا أراد البرلمان استجواب رئيس الحكومة، كما حدث في حالة الشيخ ناصر المحمد، فإن استجوابا كهذا يستلزم موافقة المجلسين، البرلمان ومجلس الأعيان. بمعنى أن موافقة البرلمان فقط على الاستجواب ليست كافية، فلا بد أن يوافق المجلسان معا كي يتم الاستجواب، هذا ليس بالضرورة أن ينطبق على استجواب الوزراء. فمجلس الأعيان قد لا يرى في استجواب رئيس الحكومة مصلحة مستقبلية للكويت بشكلها الاستراتيجي أو العكس.

إذن أهمية مجلس الأعيان، لكونه غير منتحب، هو أنه يعمل لما يراه في مصلحة الكويت، بتجرد عن المصالح الانتخابية الضيقة، التي يراعيها أعضاء البرلمان بغية إعادة انتخابهم في المرات القادمة.

إن إنشاء مجلس الأعيان Upper House، هو تغيير بنيوي ضروري كي تضاف إلى الديموقراطية الكويتية فكرة توازن المصالح Checks and Balances. ففكرة توازن المصالح أو التناقض الداخلي هي المزلاج الذي سيمنع ديموقراطية الكويت من حالة الانفلات الحالية. النظام السياسي الكويتي المكون من برلمان منتخب ومجلس أعيان معين وأسرة الحكم، هو المثلث الذي يمكن أن يضع ديموقراطية الكويت على الطريق الصحيح، ويجعلها قابلة للاستمرار ومدعاة للاستقرار. أما الوضع الحالي فلن يؤدي إلى أي نوع من الاستقرار مهما تكررت مرات الحل للبرلمان، أو تعددت مرات حل الحكومة. رسالتي للكويت بسيطة هي تبني فكرة المجلسين كحل، أما حل البرلمان فليس هو الدواء، الحل «مش في الحل».