في الاقتصاد والسياسة

TT

أحدث تقرير اللورد تيرنر عن الإجراءات الجديدة للمصارف هزة حقيقية في عالم الرأسمال يمكن تلخيصها بالاستنتاج الأساسي، وهو أن الفكرة التي كانت سائدة وبدهية بأن «السوق هو دائماً على حق» قد انتهت إلى الأبد، وأنه لا بد من التفكير بدقة وبعمق لوضع الإجراءات التي تخفف من حدة الانهيار الحالي وتضع اقتراحات لنهوض مستقبلي حتى وإن كان بطيئاً أو متأخراً.

جاء نشر هذا التقرير بعد أيام من اعتراف بيرنارد مادوف بمسؤوليته عن التهم الموجهة إليه واحتمال حكم بالسجن عليه قد يصل إلى مئة وخمسين عاماً، حيث أفادت أخبار اعتقاله بأن مادوف قد خدع آلاف المستثمرين على مدى ثلاثين عاماً بمبالغ تصل إلى خمسين مليار دولار، وأنه سبّب مآسي شتى لعوائل ومسنين وفنانين ومفكرين، وأن الحكم عليه سيصدر في 16 حزيران، وقد قال بعد اعترافه «لقد ألحقت الأذى العميق بأناس لا تحصى وإني أشعر بالحزن والعار الشديدين». هذا هو الرجل الذي، إلى حدّ قريب، كان يحلم كبار القوم أن يكونوا معه في المناسبة ذاتها أو أن يخبروا أولادهم بأنهم التقطوا صورة تذكارية معه أو تمكنوا من تبادل التحية معه.

ويأتي سقوط مادوف ومداخلات عملياته التزويرية المتخصصة التي مكّنته من بناء إمبراطورية من المال أساسها الغش والخداع والتسويف وغسيل الأموال جزءاً لا يتجزأ من الكارثة المالية التي تلامس جوهر النظام الرأسمالي نفسه بحيث يشهد العالم إجراءاتٍ ماليةً واقتصاديةً تنسف المفاهيم البدهية التي عملت منظمات مالية كبرى على فرضها على بلدان العالم الثالث بطريقة أو بأخرى، بغض النظر عن الظروف والنتائج. وكان أي اعتراض أو سؤال حول جدوى هذه المفاهيم يعتبر ضرباً من الجنون أو التخلف أو «عدم القدرة على مواكبة الحداثة» التي كانت تكبر ككرة الثلج، دون أن يتمكن الكثيرون حتى من فهم جوهرها، أو على الأقل فهم مصلحتهم في تبنيها، كما لم يتجرأ الكثيرون حتى على طرح الأسئلة الشجاعة والمنطقية.

ومع اعترافي بأني لا أنتمي إلى عالم المال أو الاقتصاد، إلا أنني كنت أشعر دائماً أن معنى الاستقلال والحرية والديمقراطية هي أن يطبق كل بلد السياسات الأنجع لمواطنيه، وأن يكتشف خصوصيته وينطلق منها بدلا من استيراد المفاهيم التي قد تناسب البعض في أقاصي الأرض ولا تناسب البعض الآخر في أدانيها. ولكن السؤال الذي أودّ أن أطرحه بعد كلّ ما يُنشر ويُكتب اليوم في عالم المال والاقتصاد والبطالة والأجور هو، هل يجب على الإنسانية أن تنطح الصخرة الصلدة قبل أن تتجرأ على طرح الأسئلة المنطقية والمفيدة؟ وهل يجب أن يكون الجبن سيّد الموقف إلى أن تبدأ الانهيارات وتعلو صرخات الاستغاثة كي يتجرأ البعض على طرح الأسئلة التي كان يجب أن تطرح قبل عقود؟ وإذا كان المنطق الذي ساد لفترة طويلة في الاقتصاد ينطبق ذاته على السياسة، أي منطق الإرهاب الفكري وعدم الجرأة على طرح الأسئلة التي لا تتناغم مع التيار العام، فإن من واجب الناس اليوم التعلّم مما حدث في الوضع الاقتصادي وعدم مسايرة المقولات المغلوطة والمغرضة، وأحياناً الجاهلة، في السياسة، إلى أن تصل الإنسانية إلى حافة الهاوية وتعلو صرخات الاستغاثة والتي قد لا تجدي نفعاً حينئذ.

بالتزامن مع فضيحة مادوف ونشر تقرير اللورد تيرنر عن البنوك والإجراءات المالية أثارت تسمية تشارلز فريمان، كرئيس لمجلس الاستخبارات القومي، من قبل الرئيس أوباما، ضجة في واشنطن أثارتها منظمات اللوبي الصهيونية وانتهت بتقديم فريمان استقالته حتى قبل أن يتم تعيينه. والتهم الموجهة إلى فريمان، والتي أخذت بعين الاعتبار لإجباره على الاستقالة، تتضمن خدمته في المملكة العربية السعودية وخدمته في الصين، وتهماً وجهت إليه بأنه بدا ودوداً ومرتاحاً لهذين النظامين، كما تتضمن هذه التهم انتقادات لإسرائيل، ولقوة اللوبي الصهيوني، والذي يقود أحياناً سياسة الولايات المتحدة الخارجية.

وقد كتب الكثيرون مقالاتٍ مفاد بعضها أن إرغام فريمان على الاستقالة هو برهان حيّ على ما كتبه الأستاذان من جامعة هارفارد ميرشمار ووالت عن قوة هذا اللوبي ودوره الأكيد في السياسة الخارجية الأميركية، بينما كتب البعض أمثال جوناثان فريدلاند في جريدة «الغارديان» البريطانية 18/3/2009 بأن قوة اللوبي الإسرائيلي هي عبارة عن أسطورة، وحاول أن يسوق أمثلة حيث اعترضت الولايات المتحدة على تصرفات إسرائيلية من بيع للأسلحة وأوقفت صفقات لها، وأحياناً حين باعت الولايات المتحدة أسلحة للمملكة العربية السعودية وغيرها رغم اعتراض إسرائيل على ذلك. وجوهر المقال هو أن السياسة الخارجية الأميركية ليست تنفيذاً حرفياً لما تريده إسرائيل و«اللوبي الإسرائيلي»، بل هناك بعض التصرفات الأميركية في تاريخها الحديث، والتي لم تلق ترحيباً إسرائيلياً، واعتُبِر هذا شأنٌ عظيم ودليلٌ على استقلال السياسة الأميركية عن اللوبي الإسرائيلي ومتطلباته!!

ومع ذلك فإن فريدلاند قد ختم مقاله بالتأكيد على أن منظمة «الإيباك» وحلفائها قد احتكروا الحديث باسم إسرائيل فترة طويلة جداً. ويضيف فريدلاند «دعونا نأمل أن حادثة فريمان تدفع القادة الأميركيين للتمعن في هذه المنظمة وحلفائها، ولرؤيتهم على حقيقتهم، وهي أنهم ليسوا أقوياء إلى تلك الدرجة، وليسوا على حق دائماً». وهنا، وفي العبارة الأخيرة، يكمن بيت القصيد إذ ليس كل من يتحدث عن تأييد إسرائيل على حق، وليس كل من ينتقد إسرائيل على باطل، حتى إذا أراد الغرب أن يرى هذه العبارة من وجهة نظر مصلحة إسرائيلية بحتة.

لقد وصل دعم الغرب لكلّ ما تقوم به «إسرائيل» وجبن الغالبية عن انتقاد وإدانة الجرائم التي تقوم بها إسرائيل، حداً لا يمكن إلا أن يقود إلى نقمة أكبر وغضب أكبر ونتائج لا تحمد عقباها. إذ هل يمكن لوزيرة خارجية الولايات المتحدة أن تجيب على سؤال عن هدم إسرائيل لمنازل في القدس بالقول إن هذا إجراء «غير مساعد»، وهل يمكن أن يصمت العالم عن تسليم سلطات الاحتلال الإسرائيلي إخطارات لسكان 90 منزلا في القدس بهدم منازلهم وقد بدأت بهدم المنازل في حي السلوان وبلدة العيزرية شرق المدينة؟ وهل يمكن أن يستمر العالم بتجاهل تقرير مسؤول الأمم المتحدة عن حقوق الإنسان بأن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب خطيرة في غزة، ولا أحد يجرؤ حتى على إدانة هذه الجرائم رغم قتلها ما يزيد على ألف ومئتي مدني، أربعون في المائة منهم من الأطفال الأبرياء، وهل يمكن أن يستمرّ الصمت عن العنصرية الإسرائيلية والتي عبّر عنها جنود إسرائيليون اعترفوا بالقتل المتعمّد للنساء والأطفال الأبرياء وأنّ التعليمات لديهم هي أنّ حياة الفلسطيني أقلّ بكثير من حياة الإسرائيلي (جريدة الانديبندينت والفاينانشال تايمز) 20/3/2009. أو ليست هذه هي العنصرية والجرائم العنصرية بذاتها.

هل يعتقد الصامتون أو الذين يحاولون كمّ الأفواه عما ترتكبه «إسرائيل» بأنهم يقدمون خدمة إلى مطامع إسرائيل ومستقبلها؟ إذا كانوا يظنون ذلك فليسبروا آراء الأطفال العرب الذين شاهدوا إخوانهم في غزة يذبحون بالقنابل الفوسفورية ويفقدون بصرهم وأرجلهم وأيديهم وأمهاتهم وإخوانهم وزملاءهم ليروا حجم الغضب والنقمة والظلم الذي يشعر به هؤلاء دون أن يروا أحداً في العالم يغضب لسفك دمائهم الزكية أو يجرؤ على إدانة هذه الجرائم المرتكبة بحقهم؟ هل يعتقد مؤيدو «إسرائيل» أن التلاعب بالإعلام وحجب ما جرى في غزة من وسائل الإعلام العالمية والتضحية بتشارلز فريمان وانتقاد كارتر وتشومسكي وجورج غالاوي وماري روبنسون وآن ليند، وكل من يجرؤ على قول الحقيقة، ومحاولة تهميشه، سينسي الأطفال العرب حقوقهم ودماءهم وطفولتهم المستلبة والمقهورة والمنتهكة والمهانة، أم أنهم سينتظرون الانهيار الذي حدث في الاقتصاد أن يحدث في السياسة ويقول أحدهم إنني أسف على ثلاثين أو ستين عاماً من العذاب الذي سببته لشعب بأكمله من القهر والحرمان والتشريد والجوع والفقر والإهانة والإذلال؟ حينذاك سيضطر الجميع إلى البحث عن إجراءات جديدة وأساليب جديدة تغيّر جوهر الصراع وآليات معالجته.

إذا كان للفكر البشري أن يتعلم من الكارثة الاقتصادية التي حلت بالعالم، فإن الدرس الأهم هو أن الكلمة الجريئة في الزمن الصعب والكلمة التي لا تلقى رواجاً لأنها تبدو عكس التيار، تستحق وقفة احترام ويستحق صاحبها الثناء لا المحاصرة والتهم الرخيصة الساذجة والإرغام على المغادرة.

غالبية الناس تفضل دائماً السير مع التيار، ولكنّ القلة القليلة التي تضع الحقيقة والمصلحة الإنسانية العليا فوق الاعتبارات والمصالح الشخصية وحتى فوق السلامة الشخصية، تستحق وقفة تقدير واحترام لأنها الوحيدة المؤهلة لتغيير وجه التاريخ قبل حصول الكارثة.

www.bouthainashaaban.com