هانز كونغ يهاجم البابا!

TT

أثارت المقابلة التي أجرتها جريدة «اللوموند» الفرنسية أخيرا مع عالم اللاهوت الكبير هانز كونغ ردود فعل غاضبة في حاضرة الفاتيكان. نقول ذلك، وبخاصة أنها حظيت بأصداء واسعة في إيطاليا بعد أن نشرتها كاملة جريدة «لاستامبا» الشهيرة في الترجمة الإيطالية، الشيء الذي زاد من قلق الفاتيكان وحزنه. وهانز كونغ لمن لا يعرفه هو العدو اللدود للبابا الحالي بنوا السادس عشر. وقد كانا زميلين في جامعة توبنجين في الستينات من القرن الماضي. وشاركا في أعمال المجمع الكنسي التجديدي الانفتاحي الشهير باسم الفاتيكان الثاني في أواسط الستينات أيضا. ولكن الكاردينال راتزنجير، أي البابا الحالي، فصله من التدريس اللاهوتي في روما عام 1979 بعد أن شكك في معصومية البابا وبعض العقائد اللاهوتية الأخرى. واعتبروه عندئذ لاهوتيا منشقا عن الكنيسة وصاحب بدع وهرطقات.. والواقع أن انفتاحه الفكري والديني على البروتستانتيين والأديان الأخرى قاطبة أزعج الكثيرين داخل الأوساط المحافظة. فالرجل يعتبر أن اختلاف الأديان يعبر عن حاجة عميقة للتدين لدى الإنسان. ولكن هذه الحاجة لا ينبغي أن تدفعه إلى كره من لا ينتمي إلى دينه أو مذهبه. على العكس ينبغي أن نبحث عن قواسم أخلاقية مشتركة لدى جميع الأديان. وهذه القواسم موجودة لأنها كلها تحض على مكارم الأخلاق، فيما وراء الاختلاف في الطقوس والعقائد. ولهذا السبب أصدر هانز كونغ في أوائل التسعينات الإعلان العالمي من أجل الأخلاق الكونية. ودعا إلى اعتراف الأديان ببعضها بعضاً، والاتفاق على نواة أخلاقية مشتركة. وطرح شعاره الشهير: لا سلام في العالم بدون سلام بين الأديان. ولا سلام بين الأديان بدون انفتاح على بعضها بعضاً، وحوار معمق أيضا وصريح فيما بينها. وضمن هذا المنظور العريض راح ينشر سلسلة من الكتب الضخمة عن الأديان الكبرى: أي المسيحية واليهودية والإسلام. وللأسف فإن كتابه عن: «الإسلام ماضيه وحاضره ومستقبله»، كان قد ترجم بسرعة إلى الإنكليزية، ولكنه لم يترجم حتى الآن إلى العربية أو الفرنسية. وهنا يكمن تفوق العالم الأنغلو ساكسوني ليس فقط على العالم العربي وإنما أيضا على العالم الفرنسي أو الفرانكفوني. والسبب هو الإمكانيات الهائلة للعالم الناطق بالإنكليزية.

الشيء الغريب هو أن بابا روما متبحر في العلم والفلسفة مثله تقريبا، ولكنهما على طرفي نقيض. فبقدر ما أن هانز كونغ منفتح على الأديان الأخرى بقدر ما أن البابا محافظ في مواقفه اللاهوتية. نضرب على ذلك مثلا بسيطا. البابا لا يعتقد فقط بأن المسيحية هي أفضل الأديان، وإنما داخل المسيحية يعتقد بأن المذهب الكاثوليكي هو أفضل المذاهب! بمعنى آخر فإن المذهب الكاثوليكي البابوي الروماني يمثل الفرقة الناجية داخل المسيحية. هذا الموقف الدوغمائي المتعصب أثار حفيظة البروتستانتيين كثيرا. فهم لا يعتبرون أنفسهم بأقل مسيحية من بابا روما أو أقل إخلاصا لرسالة المسيح والإنجيل. نقول ذلك وبخاصة أن البابا ألماني أي ينتمي إلى البلد الذي شهد ظهور مارتن لوثر مدشن حركة الإصلاح الديني في كل أنحاء أوروبا. ومعلوم مدى حجم الحزازات المذهبية بين الطرفين على مدار التاريخ. ولكن المسيحية الأوروبية تطورت كثيرا في العقود الأخيرة وتجاوزت هذه الحزازات من خلال الحركة المسكونية والتقارب بين المذاهب المسيحية أو هذا ما اعتقده الكثيرون. فإذا ببابا روما يعود بنا إلى الخلف. فالمسيحية الأوروبية شهدت عدة ثورات لاهوتية تجديدية منذ القرن السادس عشر وحتى اليوم. وكان آخرها المجمع الكنسي المشهور باسم الفاتيكان الثاني والذي أدى إلى تصالح المسيحية مع روح العصور الحديثة.

ولهذا السبب، فإن هانز كونغ يصب جام غضبه على البابا ويثير الزوبعة التي تحدثنا عنها آنفا. فهو يتهمه بأنه يريد التراجع عن المكتسبات الإيجابية والفتاوى الانفتاحية اللاهوتية للفاتيكان الثاني. ومعلوم أنه أقر لأول مرة في تاريخ المسيحية الكاثوليكية مبدأ الحرية الدينية: أي حرية أن تؤمن أو لا تؤمن، أن تمارس الطقوس والشعائر أو لا تمارسها على الإطلاق. فالإيمان لا يفرض عن طريق القسر والإكراه وإذا ما فرض هكذا فلا معنى له ولا قيمة له. فمن سينتصر في نهاية المطاف: بابا روما أم مجدد المسيحية الأوروبية؟ أعتقد شخصيا أن معركة البابا خاسرة سلفا؛ لأن المجتمعات الأوروبية مستنيرة جدا ومشبعة بالأفكار العلمية والفلسفية. ولا يمكن بالتالي أن تقبل بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.

ولكن لكيلا أظلم البابا كثيرا، وهو رجل محترم وعالم كبير، ينبغي الاعتراف بأنه أحد الضمائر الكبرى لعصرنا. وهو يركز في كل عهده البابوي على شيئين أساسيين: أولا اختفاء الله من أفق العالم الغربي الرأسمالي الاستهلاكي الأناني الجشع المغرق في عبادة المال والشهوات الحسية. وبالتالي فهو يدعو الغرب للعودة إلى القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية. وهذا شيء إيجابي بدون شك. وفي ذات الوقت يعيب على عالم الإسلام شيئا معاكسا ألا وهو شيوع تصور خاطئ ومرعب عن الله والتدين والإيمان. فالإيمان بالله والعنف لا يمكن أن يجتمعا. وهنا لا يمكن لعاقل إلا أن يؤيده. ثم إنه يدعو كل أولئك الذين يؤمنون بالله حتى ولو شكلوا تصورات مختلفة عنه إلى التحاور فيما بينهم والسير على طريق المحبة السلام. وبالتالي فهو من مؤيدي الحوار بين الأديان وبخاصة مع الإسلام على الرغم من كل الصعوبات والمشاكل الحالية الناتجة عن ظاهرة التطرف والفهم الخاطئ للدين. ثم أخيرا يقول هذا الكلام الرائع: من يقول بأن الله محبة ينبغي أن يقدم الشهادة المحسوسة على هذا الحب: أي أن يكرس نفسه وجهوده لخدمة أولئك الذين يتألمون ويعانون على سطح هذه الأرض وما أكثرهم! وهنا يكمن جوهر الدين.