لبنان: السماح بعودة عقارب الساعة إلى الوراء ليس خيارا

TT

«الديمقراطية تعني ببساطة ضرب أناس بعصي أناس من أجل أناس آخرين»

(أوسكار وايلد)

الانتخابات النيابية اللبنانية المقبلة المقررة في يونيو (حزيران) المقبل تبدو، أكثر فأكثر، غاية أكثر منها وسيلة. ففي لبنان بوضعه الراهن يلاحظ المراقب الحصيف أن التجربة الديمقراطية الحقيقية إما معطوبة بنيويا، أو مصادرة أمنيا، أو ممنوعة سياسيا.

كذلك، بغض النظر عن لطف أصدقاء لبنان والحادبين عليه، من الأسلم ألا نصدق تفاؤلهم المصرح عنه، تكرارا هذه الأيام، بأن «الديمقراطية اللبنانية الفذة» كفيلة بتذليل كل الصعاب وإبعاد جميع الأخطار المحدقة بالبلد.

بادئ ذي بدء، لا يتعامل طيف واسع من اللبنانيين مع لبنان على أنه بلد. ذلك أن منهم من يعتبره ساحة لخوض نضالات أكبر منه، وثمة من اقتنع أن البلد لا يمكن إلا أن يكون مزرعة يملكها زعيمه «الملهَم» الذي يحق له أن يمتلك من عليها أيضا، وجهة ثالثة تتصرف كقبيلة تتوهم في نفسها القدرة على خداع باقي القبائل بفضل سر «قديسها المقاتل» الذي يريد أن يفرض «قداسته» على الآخرين تحت قصف الشتائم والتحريض الطائفي الفاقع... بكرة وأصيلا.

ثم إن آليات العمل السياسي في لبنان، على الرغم من غلالتي الحرية والديمقراطية الرقيقتين، فإنه لا علاقة لهما باحترام حق الاختلاف، الذي هو الأساس الذي تقوم عليه الحريات العامة في الأنظمة التي يصح أن توصف بـ«الديمقراطية».

فعندما يكون الأمن بالتراضي، والتوافق السياسي بالابتزاز، والعدل بالمحاصصة، والحُكم في ظل قوة السلاح... لا يعود هناك حاجة للانتخابات، باستثناء جانبها الزخرفي الفارغ من أي معنى.

خلال الأسبوع الماضي أقر المجلس النيابي اللبناني بـ«إجماع» النواب الحاضرين تخفيض سن الاقتراع إلى الـ18 سنة بدلا من الـ21 سنة.

ظاهريا هذه خطوة إيجابية جداً. وهي واقع موجود في معظم الدول التي تمارس الديمقراطية، بجانب أنها كانت مطلبا مزمنا للسواد الأعظم من الحركات التقدمية والليبرالية والمدنية المستقلة في لبنان. غير أن الأجواء التي أحاطت بإقرارها في الأسبوع الماضي كانت آخر ما يجوز وصفه بالأجواء النظيفة المنزهة عن الأهواء الفئوية والمناكفات الكيدية الطائفية.

فحاليا نسبة المسلمين ممن هم بين سني الـ18 والـ21 سنة أعلى بكثير من نسبة المسيحيين. ولا شك أن في النسبة الأعلى من الناخبين الجدد الذين فُتح أمامهم باب الاقتراع في الانتخابات العامة المقبلة بعد أربع سنوات ـ أي انتخابات 2013 ـ ستكون من المسلمين، الذين يتمتعون بنسبة توالد أعلى من نسبة توالد المسيحيين. وهذا ما قد يفسر تحمس القيادات السياسية الشيعية، بالذات، لخفض سن الاقتراع.

في المقابل، ما كان لهذا المشروع أن يمر من دون «فيتو» لولا إقرار حق المغتربين بالتصويت، أيضا اعتبارا من انتخابات 2013. وكما يعرف اللبنانيون جيدا، يشكل المسيحيون نسبة عالية جدا في المغترَبات البعيدة والقديمة كالأميركتين وأستراليا. وبناءً عليه، ووفقا لاستراتيجية الابتزاز الطائفي المتبادل التي يتقنها اللبنانيون على حساب مصيرهم ومصير أولادهم وسيادة بلدهم، تحققت «صفقة» مزدوجة... في ظاهرها تعزيز لفكرة الديمقراطية، لكنها في جوهرها تأكيد لعقلية التناهش والنكاية.

هنا، قد يقول قائل «طيب، لماذا اعتبار الكأس نصف فارغة بدلا من أن نتفاءل فنراها نصف ملأى؟».

سؤال وجيه فعلا. أما الجواب فمؤسف، والدليل الانتخابات الطلابية التي تنظم سنويا في الجامعات والمعاهد اللبنانية.

هذه الانتخابات تفيدنا مع الأسف أن جيل الشباب الذي سينخرط في العملية الانتخابية البرلمانية بعد أربع سنوات يحمل كل إرث التعصب والتخلف الفئويين الموروثين عن الأهل، بل والأسوأ، أنه يفتقر إلى الذاكرة والعِبَر المستخلصة، التي ربما خففتا من نسبة غلو الأهل في مرحلة من المراحل، وجعلتهم أكثر استعدادا للتشكيك ببعض رموز الطبقة السياسية الحاكمة.

بعبارة أكثر صراحة، شباب لبنان المأمول منه إحداث التغيير الحيوي اللازم لإنقاذ المزايا التي لا قيمة للبنان من دونها، ليس مؤهلا لإحداث هذا التغيير.

شباب لبنان، للأسف، أعجز من أن يضطلع بمهمة التغيير، ليس لأنه سيئ القصد، بل لأنه نتاج نظام سياسي فاسد ومتخلف، انعدمت فيه ـ أو كادت ـ الحياة الحزبية الحقيقية، والقضايا المطلبية الجامعة، والمسؤولية الاجتماعية المترفعة عن الغرائز.

ولا حاجة لتذكر ذلك الاعتصام سيئ النية والصيت، الذي شل لبنان عام 2007، الذي كان وقوده الشباب المغرر به... والمتاجر به في «سوق نخاسة» دعاياتها الشعارات الكاذبة، ودلالوها أدوات للخارج. كما يكفي تماما الإصغاء إلى السّذاجة الغريبة، والعتوّ الأغرب، من طلبة جامعيين لم تعلمهم جامعات لبنان ـ عشوائية النمو ـ الحد الأدنى من المنهجية، أو تزرع عندهم النزر اليسير من الفضول أو حتى الشك.

في أي حال، الأزمة مع صدقية انتخابات يونيو (حزيران) المقبلة، أكبر حتى من هذه التفصيل.

فلبنان، بخلاف أي دولة ديمقراطية تحترم نفسها، يخوض انتخابات في ظروف بعيدة عن المثالية، وعن الإجماع الشعبي على الأسس التي تجعل من الأوطان أوطانا.

يخوض انتخابات ستجرى تحت وطأة سلاح ثقيل يمتلكه حصرا ـ ويشهره ساعة يشاء ـ طرف في المعادلة السياسية، وبموجب قانون انتخاب مليء بالثغرات، وبمعزل عن أي ضوابط يعتد بها لجهة الإنفاق المالي من دعايات ورشوات معلنة ومستترة، ووسط عجز تام عن ضبط الحدود الجغرافية والسياسية لكبح جماح التدخل السافر، ابتداء من الحملات الإعلامية العلنية، وانتهاء بتهريب السلاح والمجنسين إبان «حقبة الوصاية».

أي نتيجة لهذه الانتخابات، كائنة ما كانت، لا تلغي عناصر انعدام العدالة والنزاهة. وأي تفويض ينجم عنها تفويض مشكوك بشرعيته.

مع هذا، بل بسبب هذا الواقع، من واجب اللبنانيين الحريصين على حريتهم وقرارهم المستقل، التصويت وبكثافة يوم 7 يونيو(حزيران) المقبل.

المسألة، بكل اختصار، هي أن الاستسلام ممنوع... والسماح بعودة عقارب الساعة إلى الوراء ليس خيارا.