«لا»

TT

هل يمكن قياس ومعرفة «حجم» السلبية في العالم العربي؟ قد يبدو هذا مستحيلا وطلبا في أصله غريبا، ولكن من الواضح أن لكلمة «لا» مساحة ضخمة وحيزا هائلا في حياتنا يجعلها عنصرا أساسيا في تكوين آرائنا وأفكارنا.

مصطفى أمين قدم روايته الأشهر واختار لها اسم «لا»، والـ«لا» موجودة في عناوين أغاني وأفلام كثيرة «لا تكذبي» و«لا يا من كنت حبيبي» مثلا، ولكن أن تصبح إحدى القمم العربية الأشهر والتي عقدت في الخرطوم في الستينات الميلادية من القرن الماضي وتعرف باسم قمة «اللاءات الثلاث» فهذه مشكلة، فلماذا تم التركيز على الجانب السلبي من المسألة وليس الجانب الإيجابي، فمثلا لم تطلق مواقف محددة في تلك القمة تتحمل أن تنعت بقمة «الثلاث نعم»؟

أتذكر ذلك، وأنا أرى المعاملات الحكومية وهي تتنقل بين الجهات المختلفة حتى تحصل على الموافقة النهائية عليها فتكون بالعبارة الغريبة «لا مانع»، مرة أخرى عودة إلى الـ«لا»! لماذا تغيب كلمات إيجابية كموافقة أو اعتماد أو غيرها؟ ولم تقتصر هذه المسألة على المعاملات الحكومية الرسمية، ولكنها انتقلت أيضا لتشمل الآراء والفتاوى الدينية المختلفة فتكون الإجابة بـ«لا بأس»، غريب؟ لماذا لا تكون الإجابة بالموافقة أو بكلمة يجوز أو غيرها من الكلمات الإيجابية.

هذا ولد جوا عاما من الرد السلبي الجاهز لأي اقتراح أو طلب أو استفسار منطقي عن مسألة تجارية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية داخل أطر الأنظمة والقوانين الموجودة فتكون إجابة المسؤولين عنها «الأسهل» هي: لا. هكذا بدون أي عناء إضافي أو جهد زائد لمحاولة الخوض في المسألة المطروحة ومعرفة أسباب المشكلة فيها وإيجاد وسائل حل لها مناسبة تخفف المعاناة عن السائل. إن حجم الاحباط الذي تسببت فيه هذه الـ «لا» الجاهزة والمعدة سلفا وحجم المعاناة والمظلمة التي أحدثتها في نفوس العامة لا يمكن قياسه وقد يكون أسبابه أنه انعكاس للحالة السلبية العامة التي يعاني منها الناس ويخشون المستقبل والتغيير ولا يثقون فيه، وبالتالي يتحولون إلى عثرة أو عقبة أمام حدوث ذلك.

والـ «لا» هذه هي التي ولدت الأمثال والحكم التي باتت جزئية أساسية من الفلكلور الاجتماعي السياسي في العالم العربي، جمل مثل «في المشمش» أو «غطيني يا صفية ما فيش فائدة» أو «يا ليل ما أطولك» أو «موت يا دحيش» و«ماكو فايدة». السلبية طاغية في مواقع كثيرة في العالم فمن صفر المونديال الذي جاء نتيجة التصويت على استضافة بطولة كأس العالم لإحدى الدول العربية، إلى الترتيب المتدني.. للجامعات العربية في الترتيب العالمي للجامعات، إلى قائمة الفساد والبيروقراطية إلى تقييد الحريات الصحفية وغير ذلك من المحاور والمعايير اللافتة، كلها تشير وبقوة إلى أن مشكلة السلبية قوية وبارزة وبحاجة لمعالجة طويلة الأجل. الناس التي تعودت أن ترى في الفنجان النصف المملوء فيه باتت تبحث اليوم عن الفنجان نفسه فلا تجده.

إحدى الأغاني العربية حكت القصة كلها في مقطع بسيط فيها حين قالت المغنية «لما أقول آه أكون أقصد لا»، اللي فاهم أي شيء يفهمنا كلنا. وسلامتكم.