عودة الفاطميين

TT

حسب اقتراح العقيد القذافي، الذي يمم وجهه شطر أفريقيا المتحدة، فإنه لا حل لمشكلات المسلمين إلا عبر استعادة الدولة الفاطمية، فهي دولة الثقافة والفن والتقدم.

القذافي الذي جمع ثلة من رؤساء أفريقيا وبعض الصحافيين من عرب وغيرهم في موريتانيا الأسبوع الماضي بمناسبة المولد النبوي، يرى أن «الفرق كانت وبالا على التاريخ السياسي الإسلامي، وأن الحل يكمن في ظهور الدولة الفاطمية التي كانت أساسا لنهضة المسلمين».

زعيم ليبيا وأفريقيا أيضا ذكر نظريات أخرى مثل، إن الانقلابات والانتخابات كلها لا تصلح للمجتمعات الإسلامية والعربية طبعا.

لكن بخصوص النظرية الفاطمية هذه، فإن المرء لا يملك إلا التوقف قليلا عندها. فمع الإقرار للعقيد بأن ذهنية الطوائف والفرق فتكت بالنسيج الاجتماعي والجامعة الوطنية للمسلمين والعرب، إلا أننا نسأل: وهل ستكون «الفاطمية» هذه إلا فرقة جديدة تنضاف إلى الفرق، هذا إن قدر لهذه الدعوة القذافية أن تلقى قبولا جديا، وتفعل على الأرض عبر التحول من تأمل من تأملات العقيد، إلى واقع ثقافي وفكري واجتماعي وسياسي.

العقيد بشرنا بأن «العمل يجري بثبات بين المثقفين والمشرعين والكتاب والصحافيين وعامة الناس من أجل قيام دولة فاطمية في شمال أفريقيا للقضاء على الفرق القائمة والشتات الموجود، والجميع يعمل عليها سلما وليس حربا». إلا أنه من المشروع أن نسأل: ما الذي سيجعل هؤلاء المثقفين، هذه المرة، ينجحون في تغيير حقائق ووقائع اجتماعية وثقافية مضى عليها مئات السنين؟ إلا إن كانوا من نوعية المثقفين السوبرمان؟

التعلق بالدولة الفاطمية لدى القذافي ورفاقه ليس وليد اليوم، بل هو مزامن لقيام ثورة الخميني وأصحابه من الملالي 1979، فقد زار عبد السلام جلود، أحد رفاق القذافي، إيران بعد قيام ثورة الخميني واحتفى بها. وقال للملالي هناك: «نحن في الجماهيرية متأثرون بالدولة الفاطمية، وإن لم نكن شيعة»، (كما نشرته جريدة «الوطن» الكويتية في حينه بتاريخ 1 يونيو (حزيران) 1979.

قارئ التاريخ الإسلامي يعلم أن الدعوة للدولة الفاطمية انطلقت من مدينة (المهدية) في تونس، ودخل جوهر الصقلي، القائد الفاطمي، إلى مصر، ثم الخليفة الفاطمي المعز، وحكموا معظم الشمال الأفريقي، بما فيه ليبيا، وانتهت على يد السلطان صلاح الدين الأيوبي، الذي أعاد الدعاء للخليفة العباسي (1171 م).

أي أن الدولة الفاطمية حكمت الشمال الأفريقي تقريبا مع مصر، ومن هنا ربما كانت الجاذبية الوحدوية التاريخية لهذه المرحلة لدى دعوة العقيد، لكن الواقع المعيش شيء، وما جرى في التاريخ البعيد شيء آخر.

الدولة الفاطمية في الخيال والراوية السنية هي دولة «منحرفة» عن العقيدة لأنها دولة باطنية، من أجل ذلك فلن يكون لها رصيد شرعي في الذاكرة السنية التي هي الذاكرة الرئيسية لأغلب المسلمين، باعتبار السنة هم أغلبية الأمة الإسلامية، مع أن المؤرخين المختصين، وبعيدا عن التقويم الطائفي للأمور، يرون أن الدولة الفاطمية قدمت نماذج جيدة، وخدمت مصر، خاصة في جانب العمارة الفاطمية، وحسب مؤرخة العمارة الإسلامية زينات البيطار التي التقيتها في هامش جائزة زايد الدولية للكتاب في (أبوظبي) قبل أيام، فإن تأثيرات العمارة والفنون في الدولة الفاطمية المصرية بلغت مدى واسعا، ومثلت لذلك بنماذج قصور الأمراء الدروز في لبنان، حتى أن العمارة الفاطمية أثرت في نماذج من العمارة الأوروبية. ويكفي للبرهنة على ذلك مشاهدة الجامع الأزهر وغير ذلك من تحف العمارة الفاطمية.

كل هذا، وغيره، حسن وجوانب مشرقة للمرحلة الفاطمية، لكن يجب أن لا نغفل أن «من» أسباب سقوط الدولة الفاطمية هو مذهبها العقدي الذي كان مرفوضا لدى الغالبية السنية، ولذلك حينما دخل السلطان السني صلاح الدين الأيوبي إلى مصر قضى قضاء مبرما على الدولة الباطنية وتأثيراتها، وظلت مصر إلى اليوم تمثل عمقا سنيا بعيد الغور والتأثير في العالم الإسلامي.

مثل هذه الدعوات لبعث نزعات معينة من التاريخ الإسلامي تظل محدودة التأثير، ولا أقول عديمة التأثير. في تراثنا كثير من التيارات والفرق والشخصيات التي يمكن الاستفادة منها لصالح إيجاد عمق تاريخي شرعي لبعض الدعوات العصرية، إلا أنها يجب أن تمارس بحذر بشديد، وبعيدا عن «الموضات»، والجانب الآخر المهم هو أنه يجب النظر في مصير دعوات مشابهة ركزت على تقويض البنى المذهبية وتحطيم الحواجز الطائفية بين المسلمين، فبعض السلاطين والطامحين لخلق «أمة جديدة» جربوا حظهم من قبل، لكن النتائج كانت مخيبة.

شاه إيران الطموح (نادر شاه) أدرك أن التناحر السني الشيعي هو السبب الرئيس الذي حال بينه وبين توسيع إمبراطوريته الإيرانية، وأن الدولة العثمانية لا تستند في تعطيلها لطموحات إيران إلى القوة العسكرية فقط، بل إلى القوة الروحية والشرعية السنية أيضا، فعقد نادر شاه مؤتمر النجف الشهير (1743م) لإطلاق مصالحة كبرى بين السنة والشيعة، أشرف الشاه بنفسه عليه، واستدعى علماء السنة والشيعة، من العراق وخارج العراق، وكان من مفرزات هذا المؤتمر إطلاق اسم المذهب «الجعفري» على الاتجاه الشيعي، مراعاة لأسماء المذاهب الإسلامية السنية: الأحناف والشافعية والمالكية والحنابلة، واعتبار أن الشيعة ليسوا إلا مذهبا منسوبا للإمام جعفر الصادق، حاله حال بقية المذاهب السنية. وعليه فهو المذهب الخامس في الإسلام. وكان من نتائج المؤتمر الاتفاق على منع التحقير والسب من الجانبين.

لكن هذا المؤتمر الجريء والمبكر، لم يتحول إلى حقيقة اجتماعية، وظلت التناحرات والهجائيات المذهبية هي السائدة، للأسف الشديد، وربما يكون من أسباب إخفاق مثل هذه الدعوات هو انطلاقها من أجندة سياسية لهذا السلطان أو ذاك الحاكم، وليس من حرص مؤسس على نزعة إنسانية خالصة تسعى إلى إيجاد مفهوم «الإنسان» قبل أن تلقى عليه المذاهب والانتماءات القدرية التي لا خيار له فيها.

رأينا في العصر الحديث أيضا محاولات البعض لإيجاد «دين الإنسان» وإلغاء المعايير الطائفية والدينية المفرقة بين أبناء المجتمع الواحد، والموجدة للكراهيات الدينية بين المجتمعات البشرية بشكل عام، لكن ظلت المعايير والفرقة على حالها.

الطائفية داء عضال، ونراها الآن تستفحل وتطلق نار الكراهية بين أبناء المدينة الواحدة، بل القرية الواحدة، في العراق ولبنان ودول الخليج وباكستان..

في تقديري، يجب تخليص مطلب «اللاطائفية» من أغراض الساسة، وإعادة الكفاح من أجل خلق مفهوم المواطنة، ومحاربة المذهبية والطائفية المتعصبة إلى مكانه الطبيعي، والمكان الطبيعي الذي يجب أن تنطلق منه دعوات الإنسانية والمواطنة هو التربية والتعليم، ثم الإعلام، من هناك نكافح جراثيم التعصب، ثم يأتي دور الساسة والآخرين، يأتي دورهم للدعم الخالص من أي أجندة وأغراض تصب في صالح حساب السلطة وأطماعها.

أما إذا أردنا التواضع في الحلم، فلنركز على مفهوم «التعايش» فقط، فبعيد عنا، نحن أبناء المجتمعات الإسلامية والعربية، حتى الآن الوصول إلى غمامة التسامح الإنساني والأخوة المواطنية، يكفينا فقط أن يؤمن الناس بأنه يمكن أن تكون سنيا من دون أن تحارب الشيعي وتهجوه، ويمكن أن يكون الشيعي على مذهبه أيضا من دون أن يكون شغله الشاغل محاربة السني وسبه، هل هذا كثير؟! وحينما نقول التعايش، فهو ليس مفهوما سلبيا تماما، لأنه بالتعايش تتعلم كيف تصغي إلى صوت الإنسان المشارك لك في الأرض والوطن، من دون أن تراه بوصفه فردا من طائفة، بل بوصفه هو هو قبل أن تلقى عليه هويات المذاهب والأديان، وحينما نتعلم أن نرى بعضنا بهذا الشكل، ستذوب مع الوقت أوهام الشيطنة المتبادلة بيننا. فنحن مثل بعضنا في النهاية! لدينا أحلام مشتركة ومخاوف مشتركة أيضا، وكلنا يسعى من أجل أن ينشأ أطفاله في تعليم جيد وصحة جيدة ومسكن ملائم، أحلامنا بسيطة جدا، وتستحق أن نتفرغ لها، لا أن نتفرغ لتلقي تعليمات خطباء الكراهية.

لسنا بحاجة لبعث عظام الدولة الفاطمية أو العثمانية من أجل أن نعرف أنفسنا ونعيد خلق حياتنا على هذه الأرض، فإعادة التاريخ أحيانا هي ضرب من الإخفاق في رؤية الواقع كما هو، أو هو ضرب من العبث المضحك المبكي..