أوباما ينفذ ما تعهد به

TT

لا تعدو فكرة أن الرئيس أوباما تحول نحو اليسار في سياساته منذ تنصيبه وبات يحكم البلاد كليبرالي متمسك بالآيديولوجيات البالية، كونها محض هراء. في الواقع، تعكس الأجندة الرئاسية لأوباما التوجهات التي سبق وأعلنها خلال حملته الانتخابية. ورغم تحوله عنها بالفعل على عدد ضئيل من الأصعدة - فإن هذا التحول جاء بأكمله تقريبا باتجاه اليمين.

ودعونا نلقي نظرة على الأحداث الماضية: فيما يخص الحرب في العراق، اتخذ أوباما قرارا حكيما بالتراجع عن خطة الانسحاب التي سبق أن وضعها بمعدل انسحاب لواء كل شهر. ومد أوباما الجدول الزمني للانسحاب من العراق إلى 19 شهرا، بدلا من 16 شهرا. واتضح أن القوة المتبقية التي ناقشها أوباما خلال حملته الانتخابية ستصل في مجملها إلى 50 ألف جندي.

ومن ناحيتها، اتهمت منظمة كود بينك، المناهضة للحرب، أوباما بـ«خرق تعهده... وبات أشبه بأنصار الاحتلال».

وفيما يتعلق بالقضايا القانونية المتداخلة مع الحرب ضد الإرهاب، يتحلى أوباما أيضا بالحكمة ويمضي قدما ببطء أكبر عما يطالب به الكثير من دعاة الحريات المدنية. وصدر قرار بإغلاق معسكر غوانتانامو - أخيرا. وتم وقف المحاكمات العسكرية، والتنديد بسياسات التعذيب والكشف عن المذكرات السرية.

إلا أن وزارة العدل في عهد أوباما دعمت ما سبق وأن أكدته سابقتها في ظل إدارة بوش، من أن للدولة حق وقف الدعاوى القضائية التي تطعن في التنصت على الاتصالات وإجراءات التسليم غير الاعتيادية. وأعلنت الإدارة أن السجناء في أفغانستان ليس لهم الحق في الطعن في شرعية احتجازهم أمام المحاكم. واعتمدت الإدارة على الحكومة البريطانية في الإبقاء على سرية الأدلة على وقوع أعمال تعذيب مزعومة.

ومن جانبه، تحسر أنتوني روميرو، المدير التنفيذي لاتحاد الحريات المدنية الأميركي، على هذا الأمر بقوله: «إن الأمل يومض ويخبو». وفيما يتصل بالقضايا الاجتماعية المثيرة للخلاف، التزم أوباما في أغلب سياساته النهج الذي وعد به خلال حملته الانتخابية، مع إبداء الحرص مجددا على المضي بحذر. وفي إطار الخطاب الذي أدلى به بالأمس وتناول خلاله قضايا التعليم، لم يكتف أوباما بالتأكيد على دعمه لفكرة تقديم مكافآت إضافية للمدرسين على أساس الجدارة «من أجل تحسن مستوى إنجاز الطلاب»، وإنما دعا أيضا الولايات لرفع الحد الأقصى المفروض على عدد المدارس العامة المستقلة. وأعاد أوباما التأكيد على دعمه لتيسير تنظيم النقابات، وهو إجراء مثير للجدال، لكنه لم يبد حماسه حيال طرح التشريع المعني بذلك. وبالمثل، مضى أوباما على نفس نهج إدارة بوش فيما يتعلق بالمبادرات المرتبطة بالأديان، وتراجع أوباما عن موقفه القائم على ضرورة ألا تمارس المؤسسات التي تتلقى أموالا فيدرالية تمييزا فيما يتصل بإجراءات التعيين. بدلا من ذلك، تقرر تناول هذه القضية على أساس كل حالة على حدة. وفي هذا الصدد، علق باري لين، المدير التنفيذي لمنظمة الأميركيين المتحدين للفصل بين الكنيسة والدولة، على القرار بقوله: «أشعر بخيبة أمل بالغة».

والآن، ربما يتساءل البعض: وماذا عن قضيتنا الرئيسية المتمثلة في الاقتصاد؟ الواضح أن نهج أوباما في اختيار مسؤوليه الذين ينتمون لتيار الوسط، أمثال تيموثي غيتنر، وزير الخزانة، لاري سمرز، مدير المجلس الاقتصادي القومي، بيتر أورسزاغ، مدير مكتب الإدارة والميزانية، انعكس كذلك على السياسات الاقتصادية التي يتبعها، التي تتسم هي الأخرى بطابع وسطي. في واقع الأمر، اتبع أوباما على هذا الصعيد، سياسات أكثر اعتدالا عما تعهد به.

يذكر أن تعهده المتهور بخفض الضرائب عن 95% من الأميركيين تم ربطه حاليا بجني عائدات من وراء برنامج «تجارة الانبعاثات». وتناسى أوباما ما وعد به على نحو منفصل حيال التخفيف من حدة الزيادات في الأسعار الناجمة عن البرنامج. علاوة على ذلك، عدل أوباما الحد الأقصى للتخفيضات الضريبية من 1000 دولار إلى 800 دولار. وبدلا من محاولة رفع المعدل الأعلى على الفور، قرر أوباما الانتظار حتى انتهاء سريان التخفيضات الضريبية، التي أقرتها إدارة بوش، في عام 2011. وفي مجال الرعاية الصحية، يرغب الرئيس الآن في توفير كامل التمويل اللازم لخطته من الضرائب الجديدة أو التخفيضات المقررة على صعيد الإنفاق.

وفي واقع الأمر، إن العواء المتوقع إزاء تكديس أوباما المزعوم للضرائب على عاتق الأثرياء يتجاهل أنه تناول بوضوح هذه السياسات خلال حملته الانتخابية. أما الإجراء الوحيد الإضافي فتمثل في اقتراحه بتقليص قيمة التخفيضات الضريبية بالنسبة لدافعي الضرائب الأكثر ثراءً. لكن المقترح قضي عليه بمجرد وصوله إلى الكونغرس.

والتساؤل الذي يفرض نفسه الآن: بالنظر إلى الحاجة لتركيز الاهتمام ورأس المال السياسي على الاقتصاد، هل يبالغ أوباما فيما يبديه من اهتمام بتنفيذ كافة ما وعد به في برنامجه الانتخابي؟ ربما، لكن ليس هناك ضرر من تحديد أولويات، ذلك أن افتراض أن التعامل مع الأزمة الاقتصادية يحول دون تناول أي قضايا أخرى سيسفر بالتأكيد عن إنجاز أي أمر آخر.

وبعيدا عن الاقتصاد، يتركز اهتمام أوباما الرئيسي هذا العام على إصلاح الرعاية الصحية. وربما يكون حتى ذلك محاولة من جانبه للاضطلاع بقدر مفرط من المهام، لكن من المنطقي النظر إلى الرعاية الصحية باعتبارها قضية أخلاقية واقتصادية جديرة بمحاولة تناولها. وعلى أية حال، يبدي المشرعون عزمهم على المضي قدما في تناول هذه القضية بأقصى ما باستطاعتهم.

أما أكثر الانتقادات المشروعة الموجهة إلى أوباما فهي أن رؤيته المتعلقة بالتضحيات المشتركة لا تقوم على مشاركة كبيرة حقيقية، ولم يتم حتى الآن اتخاذ الخيارات الصعبة التي يتحدث عنها. ولم يتضح بعد ما إذا كان يتمتع بالقوة اللازمة للوقوف في وجه قيادات الكونغرس.

وإذا وجد الرئيس أوباما صعوبة في «وضع نهاية للسياسات التي من شأنها بث الفرقة في الأمة»، حسنا، فإن الكثيرين منا لم يؤمنوا على أي حال بإمكانية حدوث مثل هذا التغيير. لكن هذه التساؤلات تختلف عن تلك المثارة حول راديكالية أوباما المزعومة. إن أوباما يفعل، أو يحاول فعل، ما وعد به، بعد أن دفعته المتطلبات التي فرضها الواقع إلى التخفيف من حماسه، فما يثير الصدمة إذاً في هذا؟

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»