القطاعان

TT

كان عبد الرحمن بدوي حاداً قاطعاً في كل شيء. ولم يقطع فقط في أن زملاءه في جامعة بيروت كانوا ناقصين وأردياء ومتآمرين، بل قضى أيضاً في أن الفارابي وابن رشد وابن سينا قد شوهوا أفكار أرسطو في تلخيصها للعرب. وهم لو أحسنوا النقل لكان وجه الحضارة العربية كلها قد تغير: «فلو قدر لهذا الكتاب أن يفهم على حقيقته وأن يستثمر ما فيه من آراء ومبادئ لعني الأدب العربي بإدخال الفنون الشعرية العليا.. ولتغير وجه الأدب العربي كله. ومن يدري! ولعل وجه الحضارة العربية كله أن يتغير طابعه الأدبي كما تغيرت أوروبا عصر النهضة». يقرأ الدكتور علي أومليل، أحد شيوخ المثقفين العرب، هذا الكلام ويتساءل: هل حقاً توقفت نهضة العرب عند كتاب واحد، اختاره لنا الدكتور بدوي أو الدكتور طه حسين، الذي تشابهت آراؤه وخلاصاته مع قناعات الدكتور بدوي. لقد عاد الدكاترة العرب من الخارج في مرحلة ما، وفي ظنهم أن الحضارة العربية ناقصة ومغلقة على الحضارات الأخرى. وكان بدوي وطه حسين يعتقدان أن الحضارة اليونانية هي أم الحضارات الإنسانية، فمن لم ينهل منها ويتشبّع بقيت حضارته ناقصة أو محدودة.

يجزم طه حسين وبدوي بأن شرح الفلاسفة العرب لأعمال أرسطو في الشعر والخطابة كان عقيماً لسببين: الأول أنهم لم يفهموا مناخ الأعمال التي تطرقوا إليها ولا معاني الأفكار. والثاني لأن الفكر والنظام السياسي الإسلامي لم يكن يستسيغ ما تحويه «الخطابة» اليونانية من فكر قانوني ونظم سياسية عرفها اليونان ونقلها الغرب الحديث.

تناقض هذه المدرسة الحديثة مدارس الأوائل، من الجاحظ إلى ابن الأثير. فقد حاولت المدرسة الأولى حماية اللغة العربية من أي مؤثرات أو دخائل. واعتبر الجاحظ ـ الذي لم يكن من أصل عربي ـ أنه يجب المحافظة على أصالة اللغة، لأن لا بيان إلا فيها. فالبيان عربي فقط، وكل ما هو غير عربي «لا يبين». ورأى ابن الأثير أن العربي لا يحتاج إلى دراسة علم الخطابة عند اليونان برغم أسبقيتهم الزمنية «فلا يستفيد بمعرفته صاحب هذا العلم ولا يفتقر إليه».

الإبداع العربي إبداع الفطرة وليس إبداعا مكتسبا، كما رأى الجاحظ. ولذا ليس في حاجة إلى معارف خارجية. وهذا ما حاول طه حسين وعبد الرحمن بدوي الاعتراض عليه، فالثقافة البشرية عندهما حالة عالمية متكاملة. كل شيء يولد من شيء ولا شيء يأتي من لا شيء. وما لا يقوله لنا الدكتور أومليل هو أن «الأنا» كانت شديدة التضخم عند العالمين الكبيرين. ولعل مكانتهما في زمنهما زادت في ذلك. حتى أن بدوي آثر أن يمضي بقية حياته في فندق باريسي لكي لا يعود إلى مصر ويلقى ما يحب أن يلقاه. هو و«أناه».