التراث الأشعبي

TT

رأينا كيف ترك أشعب الطماع ذلك التراث الجوعاني من النكات والمقالب التي أصبحت أساسا لهذه الفصيلة الطويلة من الفكاهة العربية، الجوعيات. في أحد نماذج هذه الطرائف نجد كيف أن العرب أبدعوا في تسخير اعتزازهم بلغتهم وحذلقاتها البلاغية والنحوية في صياغة هذه الطرائف. مرض فتى وأشرف على الموت في مرضه فحاول عمه أن يواسيه ويشجعه فسأله ماذا من الأكل تشتهي؟ فقال رأس كبشين. فأجابه عمه أن ذلك في غير الإمكان. فقال الفتى، إذن فرأسا كبش!

ترى ما الذي كان يطلب لو أنه لم يكن مشرفا على الموت؟

ومن اللعب بالألفاظ أن ذكروا أن أحمد رامي دعي إلى وليمة، أعجبه منها طبق «ضلمة» وإن كانت بدون لحم، فركز عليها متجاهلا الأطباق الأخرى. فقال له صاحب الدعوة: يا أستاذ كل من الأطباق الأخرى فالضلمة دي كذابة.

فأجابه: «وانت مالك، أنا مصدقها»!

وردت حكايات كثيرة عن هارون الرشيد، ومنها أنه كان يستضيف أبا الحارث جمين وعيسى بن جعفر. طرح أمامهما خوانا عليه ثلاثة أرغفة فأسرع أبو الحارث وأكل رغيفه قبلهما ثم نادى على غلامه أن يأتيه بحصانه. فدهش الخليفة وسأله عن ذلك فقال أريد أن أركبه إلى ذلك الرغيف الذي بين يديك. فضحك الرشيد وأمر له بصلة.

ولأبي الحارث بن جمين طرائف جوعية أخرى، ومنها أنه ارتفق مع عدد من رفاقه في شراء شيء من اللحم، يطبخونه ويأكلونه سوية. فلما تلهوج اللحم ونضج، انتشل أحدهم قطعة منه وأكلها قائلا: «إنها تحتاج إلى ملح». ونشل آخر قطعة أخرى وقال: تحتاج الأكلة إلى توابل. والتقط ثالث لحمة أخرى وابتلعها قائلا: «وتحتاج إلى بصل». وعندئذ رفع أبو الحارث القدر وأخفاه وراءه قائلا: «وهذا القدر يحتاج والله إلى لحم»!

وأصاب رجل كبد الحقيقة في معيشة المدقعين والمعدمين عندما مرض وعاده الطبيب وأمره بالامتناع عن أكل السمك واللحم. فقال له: لوكانا عندي ما اعتللت.

ولم تكن مجرد نكتة عندما سمعت مثيلها من زميل لي في كلية الحقوق ببغداد، اعتل قبيل الامتحان فنصحه طبيب لبناني بأن يمتنع عن أكل المعكرونة والبقلاوة ونحوهما من المعجنات والسكاكر! وكان على حالة تعيسة من الفقر. فقال للطبيب ساخرا: «لا دكتور، الله يخليك! ممكن أترك المعكرونة ولكن البقلاوة.. آه لا أستطيع أن أعيش بدونها»!

كان من ظرفاء العرب أيضا مزبد المديني. جاء يوما برأسي خروف مطبوخين مما يسميه العراقيون برأس باجا. وضعهما أمام زوجته وقال لها اقعدي لنأكل. فأخذت أحد الرأسين ووضعته خلفها وقالت هذا لأمي. بادر مزبد فأخذ الرأس الآخر ووضعه خلفه قائلا وهذا لأبي. قالت فماذا نأكل؟ قال ضعي رأس أمك وأنا أضع رأس أبي.

استمر هذا النهج إلى عصرنا هذا، وبقي ما بقي الفقر والجوع معششا في أوطاننا العربية.

www.kishtainiat.blogspot.com