نصف الظلم.. ولا الظلم كله

TT

الحمد لله!، عرفت اليوم أن مساعي الدكتور فتحي سرور، رئيس مجلس الشعب المصري، نجحت في إعادة المعتقل نجيب عبد الفتاح إسماعيل إلى السجن القريب من أهله، والدته البالغة من العمر 74 سنة، وأولاده وزوجتيه، بعد أن كان قد طوح به إلى سجن الخارجة في الصحراء الغربية الموازية لجنوب مصر، من دون أسباب مذكورة. لكي أشرح الحكاية، لا بد أن أقولها من البداية!.

الحكاية أنني كنت قد قرأت منذ أكثر من ثلاثة أشهر، بالتحديد في 9 ديسمبر 2008، مقالا للدكتور أحمد فتحي سرور بعنوان بهرني: «حقوق الإنسان بين الشعار والتطبيق»، نشرته جريدة الأهرام ثاني أيام عيد الأضحى في مكان بارز، كأنه العيد نفسه، وكان هذا في إطار إحياء الذكرى الـ 60 للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي قال فيها أكثر من قائل إننا الذين اخترعناها من ناحية الفراعنة، ومن ناحية العرب، ومع ذلك نهش الحزن قلبي، فصوت الحاجة عائشة إسماعيل كان لا يفارق أذني: «رحَّلوا نجيب على سجن الخارجة».. نجيب هو ابنها المعتقل، أي نعم «المعتقل»، منذ 15 سنة عندما طلعت صيحة «تجفيف المنابع»، تلك الصيحة الشريرة التي لا أدري أين يضعها حماة الحمى في سبقهم التاريخي لحقوق الإنسان. المهم، عليَّ أن أوجز في القول ما أستطيع؛ حتى لا يتوه الهدف. نجيب عبد الفتاح إسماعيل، المولود عام 1952، وهذا سر اسمه نجيب، صنعته النجارة في دمياط، ويسكن بالقرب منها فيما يسمى بـ «سواحل كفر البطيخ». نجيب في حاله مع أسرته المكونة من زوجتين وأبناء وأمه وأشقائه، رجالا ونساء. نجيب له أفكاره واجتهاداته، لكنه لم يفرضها على أحد، لا بالذوق، ولا بالعافية. هو إنسان شريف، مهذب، ودو،د يتقي الله ويخافه، لم يحمل سلاحا، ولم يروع آمنا، ولم يهدد الأمن العام، لكنه كان دائما على قائمة المطلوبين للاعتقال كلما احتاجت البلاد إلى حملة اعتقالات مبررة وغير مبررة، ولاتسألني لماذا؟. أنا لا أعرف، لكني أستنتج أنه ربما كان ذلك بسبب المنهج العشوائي العصبي الذي يتبعه المكلف بتسديد خانة الاعتقالات، ولعلهم وجدوا في خلفيته الأسرية أنه الابن البكر للشهيد عبد الفتاح إسماعيل تاجر الغلال الذي أعدمه عبد الناصر مع الشهيد سيد قطب في أغسطس 1966، ولعلهم وجدوا في هذه الخلفية ما يبرر اعتقاله، من باب الاحتياط ،غير آبهين لقاعدة: «ولا تزر وازرة وزر أخرى»،بفرض أن والده كان يحمل وزرا. لم يحاكم نجيب، ولم تصدر عليه أحكام، ومع ذلك قضى معظم سنوات عمره يتنقل من سجن إلى آخر، والحاجة عائشة أمه تلهث وراءه بالمشوار من قبلي إلى بحري، ولا إيزيس في زمانها، تحمل الزاد، الذي كان غالبا ما يطوح به على رمال الصحراء في الوادي الجديد بعد رحلة سفر شاقة من بلدتها الدمياطية. اختصارا للكلام.. بلاد شالتها، وبلاد حطتها،على طول سنوات العهد الساداتي والعهد الحالي الذي أخذ نجيب معتقلا عام 1993، ولم يعتقه حتى الآن من دون وجه حق، من دون محاكمة، من دون حكم قضائي نعرف له أولاً من آخر. كل عيد تقول أمه: «يمكن يفرج عنه هذه المرة»، وهيهات!. تقدم التظلمات، وتتعشم في إخلاء سبيل تقرره النيابة، وهيهات!. ارتاحت الحاجة عائشة عندما استقر ابنها لبعض الوقت في سجن وادي النطرون، لقربه نسبيا من دمياط، لكن هذا «الهناء!» لم يدم، وفي انتظارها للعيد وأملها «يمكن يفرجوا عنه هذه المرة»، جاءتها الأنباء التي هدت حيلها «أخذوا نجيب على سجن الخارجة..»، أين هذا السجن؟، ولا تعرف، وحتى لو عرفت.. كيف لها ـ وهي في الرابعة والسبعين، وتئن من آلام الظهر والمفاصل وأوجاع الركبة ـ أن تجول وتصول مع المركبات والمسافات كسابق عهدها القادر على الصبر والاحتمال؟.

تساؤل مشروع في مناسبة احتفالنا بذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. والأهم، في ظلال مقال الدكتور أحمد فتحي سرور «حقوق الإنسان بين الشعار والحقيقة»، فما كان مني سوى أن هاتفته: ماذا تكون إجابتك يا سيدي الفاضل يا رئيس مجلس الشعب؟.

اختصارا للتفاصيل: طالبته بالإفراج عنه بضمان أمه. قالوا له لا!. قلت: صحيح، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ولكن يعود،على الأقل، إلى المعتقل القريب من أهله. حاول، رئيس مجلس الشعب، ونجحت مساعيه. هاتفته أشكره: نصف الظلم.. ولا الظلم كله يا دكتور. قال: تمام.. نصف الظلم.. ولا الظلم كله!.

الحقيقة أنني كذبت، لأن نصف الظلم هو: الظلم كله!.