ختامها نصيحة من قلب عبد العزيز خوجة

TT

جاء الدكتور عبد العزيز محيي الدين خوجة، ليودع لبنان الرسمي، بعدما اصطفاه الملك عبد الله بن عبد العزيز، ليكون وزيرا للإعلام والثقافة للمملكة العربية السعودية، فإذا به يجد نفسه مغمورا بالامتنان والإقرار بأن ما كان يقوله، كسفير في ذروة التأزم خلال السنوات الثلاث الماضية، التي سبقت التوافق على الرئاسة الأولى، كان عين الصواب.

وفي سنوات التأزم المشار إليها، واجه الدكتور خوجة من المنغصات والأمزجة السياسية المتقلبة ما جعله يأسف من دون أن ييأس، ما دام الله مع المسعى المخلص لبلده نحو لبنان، الذي له في وجدان أبناء المغفور له الملك عبد العزيز المكانة الأرحب، كما له في خاطر عبد الله بن عبد العزيز شخصيا التعاطف المتميز عن أي تعاطف آخر. ونستحضر ونحن نكتب عن وداعه كسفير، عبارة سمعناها منه بعد لقائه مع رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري، يــــــــــوم الاثنين 16ـ6ـ2008، وكان مطلب الوفاق لا يجد طريقه إلى التفاهم عليه واستهدفت المملكة من هذا اللقاء لوي طيف العناد وعدم التشبث بالتناور السلبي. والعبارة هي «إن علاقة المملكة هي مع لبنان كدولة بكل طوائفه ومجموعاته السياسية، ونحن مستعدون للتشاور والتعاون مع أي كان، إذا كان ذلك يحقق الوفاق في لبنان». وهذه العبارة كانت، إذا جاز القول، خارطة الطريق السعودية، التي وضع الملك عبد الله بن عبد العزيز الأسس الثابتة لروحيتها، وأوكل إلى الجهات المختصة التي تساهم في صياغة القرار أمر التنفيذ. وبالنسبة إلى موضوع لبنان فإن كياسة عبد العزيز خوجة ساهمت بفعالية لجهة المثابرة وعدم التوقف أمام زلات لسان أساء الذين اقترفوها إلى بلدهم، وأثبتت خواتيم الأمور صحة ذلك.

وكما أن سنوات عبد العزيز خوجة كسفير اتسمت بمشاعر تجمع بين المسؤولية السياسية يكون التعبير عنها بتصريحات تتضمن عبارات مثل التي أشرنا إليها، وأحيانا يكون شعرا أو نثرا، كونه جمع إلى جانب التخصص العلمي والحذاقة الدبلوماسية موهبة الكتابة، جامعا في أبيات الشعر التي يقرضها بين التحسر على حال وطن أو قضية، وبين الأمل بلحظة خلاص، كتلك اللحظة التي حدثت في لبنان متمثلة بالوفاق. وهو عندما سمعناه يناشد، في مناسبة تكريم الدارة الحريرية له مساء الخميس 19ـ3ـ2009، اللبنانيين الاهتمام بوطنهم قائلا كختام لمهمته الدبلوماسية، وبما يشبه التمني والنصيحة: «على المسؤولين في لبنان الترفع عن الحساسيات الضيقة، وتغليب مصلحة الوطن عبر الإنكباب على حوار معمق مسؤول يؤدي إلى حلول مقبولة من كل الأطراف، وحافظوا على لبنان بأشفار عيونكم، لأن الله عز وجل حباه بخصائص لم يهبها لسواه» مضيفا: «بلدكم أمانة في أعناقكم، فكونوا مثل أجدادكم بمستوى الأمانة». إننا عندما سمعنا هذه المناشدة تذكرنا مرثاته التفاؤلية للبنان بعدما أطبقت الظلاميات عليه، وكادت تودي به، واستحضرنا أبياته في هذا الشأن، ومنها «هذي هي الارزة الشماء دامعة... هذا هو الجبل العملاق ينفعل» و«لبنان يا أملا ما زلت موئله... لبنان يا شامخ الهامات يا بطل» و«لبنان في قلبنا نار تؤرقنا... خوفا على بلد قد عزه الأزل» و«لبنان أرض الحجى هل للحجى أجل... قد حل في جدل أم جاءنا الأجل» و«كأن لبنان لا أرض ولا نسب... وأهل لبنان من لبنان قد رحلوا» و«جرح على الأمل المكسور ينحرني... لبنان عد أملا فالجرح يندمل» و«يا ساسة البلد المستنجد أتحدوا... هذي بلادكم والسهل والجبل». وأما أقواله في مناسبة التكريم الحريرية، وكذلك قوله الكلام في الإطار نفسه أمام الرئيس ميشال سليمان، الذي كرمه قولا ووساما رفيعا، وأمام الرئيس فؤاد السنيورة، الذي كرمه امتنانا، كما امتنان المفتي الشيخ محمد رشيد قباني، ونائب رئيس المجلس الأعلى للطائفة الشيعية الشيخ عبد الأمير قبلان، والإشادة التباركية من جانب البطريرك الماروني نصر الله صفير. أما أقواله المشار إلى بعضها فتندرج في البيت الأخير من قصيدته، التي اعتبرناها ترثي وتتفاءل في الوقت نفسه، وهو «لبنان إني على عهدي رفيق هوى... مهما يطل بعدنا فالجمع يشتمل». وهنا نشير إلى أن من حسن حظ لبنان، الذي يضع نفسه يوما بعد آخر على سكة السلامة، أن عبد العزيز خوجة الوزير، سيكون مثل عبد العزيز خوجة السفير، في الحدب على لبنان حتى التعافي الكامل، ذلك أن توجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، تقضي بأن تشمل العين السعودية الساهرة لبنان حاضرا ومستقبلا، كما كانت ماضيا.

وتبقى الهدية التذكارية التي قدمها نبيه بري، بعد احتفائه الرسمي كرئيس لمجلس النواب، وليس كزعيم «حركة أمل»، التي تتقاسم مع «حزب الله» الطائفة الشيعية بأطيافها المتحزبة، بالدكتور خوجة، لافتة كما هداياه في بعض المناسبات لبعض الشخصيات، التي تحمل دلالة، ومنها هديته يوم الجمعة 17ـ10ـ2008 لمفتي الديار المصرية الشيخ علي جمعة، الذي زار بري على هامش مشاركته في افتتاح مسجد محمد الأمين. وكانت الهدية عبارة عن إطار جميل ثبتت في داخلة بخط جميل آيات «سورة الناس»، وهي الأخيرة في المائة وأربع عشرة سورة، من كتاب الله. والآيات هي: «قل أعوذ برب الناس. ملك الناس. إله الناس. من شر الوسواس الخناس. الذي يوسوس في صدور الناس. من الجنة والناس». ومن الجائز أن الهدف من هذه الآية الروحانية بالذات كان تنبيه مصر من وساوس، قد يكون زرعها أحد أقطاب الطائفة المارونية، زعيم حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع، عندما زار مصر، والتقى كبار القوم فيها، خصوصا أن توقيت الزيارة تزامن مع زيارتين قام بهما القطب الماروني الآخر الجنرال ميشال عون، الذي أفقدته صيغة الوفاق اللبناني فرصة أن يكون هو رئيس الجمهورية اللبنانية، فأشهر غضبه مترجما إياه بزيارة مثيرة للدهشة إلى سورية، وزيارة لاحقة مثيرة للاستغراب إلى إيران.

وأما هدية بري، إلى الدكتور خوجة، فكانت لوحة تمثل لبنان مع تركيز مجسم على بيروت، وكأنما أراد «أبو مصطفى البيروتي»، كما أوحت هذه التسمية مقالته عن بيروت في ذكرى ثمانينية «جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية» الصرح التربوي المحسوب على الطائفة السنية البيروتية بالذات، التي أنشأت عدة كليات، من بينها الكلية الأساس في العاصمة، التي نبيه بري أحد خريجيها. والذي أراده بري من هذه الزيارة هو التأكيد لمحب «أم الشرائع» عبد العزيز خوجة، بأنها ستكون محروسة، ولن تتوعك بعد الآن من أي اجتهادات كلامية أو مغامرات دراجية نارية، وأنه كزعيم لنصف الشيعة المتحزبين في لبنان يتمنى عليه طمأنة خادم الحرمين الشريفين إلى ذلك خصوصا أن معادلته، معادلة بري، التي طالما نادى بها واعتبرها بوابة الحل والاستقرار وهي «س. س» أي مصالحة السعودية وسورية قد تحققت كإجراءات، لكنها تنتظر دفء العلاقة وتآلف القلوب واقتناع الرئيس بشار بما يسمعه كمطلب ونصيحة، وخصوصا أن بري الصديق الأكثر إخلاصا للأسدين الابن بعد الأب، وحافظ جمائلهما، هو القائل عندما زار قطر المنهمكة بتخمة أدوار تصالحية، أمام الجالية اللبنانية يوم الثلاثاء 16ـ4ـ2008 «سأقوم بكل ما يلزم لتأمين متطلبات نجاح الحل العربي، انطلاقا من زيارة المملكة العربية السعودية والتشرف بلقاء خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، الذي أعرف حرصه على التضامن العربي، وتطلعه إلى المستقبل من أجل الخروج من واقع العجز العربي، وامتلاك الإرادة السياسية القوية، وأعرف حرصه الشديد على لبنان، ورغبته في دعم التوجه إلى تدارك الفراغ الخطير في لبنان عبر حل أزمته، ارتكازا على المبادرة العربية». وها هو الحل بالنسبة إلى لبنان وفق المبادرة قد تحقق، وتبقى زيارة نبيه بري إلى السعودية، التي طال إرجاؤها خصوصا وقد انحسرت المنغصات، وبات ممكنا تمييز اللون الأبيض من اللون الأغبر، بعدما كانت الأحوال اللبنانية لا تسر وبالذات في العاصمة، التي «عشقها قدر» للجميع، بمن فيهم من يترأس برلمانا، أو يتزعم تيارا، أو يقود مقاومة، أو يمثل بلده سفيرا، أو يلوذ بها لاجئا سياسيا. لكنها عصية على من يطمع بها بأكثر من حقه، ومن لم يتعامل معها برفق فانتهى محروما منها. وهذه خصائص أدركها الدكتور عبد العزيز خوجة، الذي لقي لمناسبة انتهاء عمله كسفير لخادم الحرمين الشريفين لدى لبنان وداعية لا مثيل لرونقها من لبنان، الذي أنقذه عبد الله بن عبد العزيز بـ«المبادرة العربية» من محنته، بعدما كان المغفور له فهد بن عبد العزيز صان له شرعيته باتفاق الطائف.