الجامعة العربية بعد 64 عاماً

TT

تمر هذه الأيامُ الذكرى الرابعة والستون على قيام الجامعة العربية. وبهذه المناسبة، أصدرت الأمانةُ العامةُ للجامعة بياناً ما اكتفى للمرة الأولى باستعراض الإنجازات والطموحات، بل أدانَ أيضاً محاولاتٍ من دولٍ عربيةٍ وإقليميةٍ لإلغاء الجامعة العربية وجوداً أو دوراً أو الأمرين معاً!

وقد تكونت الجامعةُ بين عامي 1943 و1945 من الدول العربية اختياراً، ولا تُصبحُ قراراتُها مُلْزِمةً إلا إذا صدرتْ بالإجماع. وهذا الأمر يُعطي فكرةً أوليةً عن طبيعة الجامعة وصلاحياتها وقدرات أمانتها العامّة. وقد لا يكونُ ذلك سبباً كافياً لِتَواضُعِ إنجازاتها، إلاّ إذا أَخذْنا بالاعتبار أنه بسببٍ من طبيعتها منذ النشأة، وبسببٍ من ظروف الوطن العربي في نصف القرن الأخير، ظلّت الجامعةُ قوةً وضعفاً، تابعةً في فعاليتها ومداها، خلال الحرب الباردة، وبعدها، لإحدى آليتين أو واقعتين: التوافُق بين الدول العربية أو معظمها في كبرى المسائل، أو ظهور طرف عربي كبير يستقطبُ الآخَرين أو معظمهم لاستراتيجياته وسياساته. وقد حدث الأمر الأول (أي التوافُق الناجم عن إدراك الضرورات) في حالاتٍ قليلة، وحدث الأمرُ الثاني في حالاتٍ أكثر (زعامة مصر في عهد عبد الناصر مَثَلاً)؛ بينما حدثت في العقود الأخيرة حالتان نافرتان: حالة الاستقطابات المتنافرة (مثل الصراع بين سورية والعراق بعد خروج مصر بسبب كامب ديفيد أواخر السبعينات)، وحالة التشرذُم المطلَق الذي لا ضابطَ له ولا رابط (مثل حالتنا بعد حرب العراق على الكويت، وحالتنا بعد حرب الولايات المتحدة علينا بعد العام 2001). على أنّ الذين لا يريدون بنا ولا بالجامعة خيراً إمّا بحسن أو سوء نية؛ فإنهم يعمدون إلى المقارنة بين جامعتنا، والاتحاد الأوروبي. يقول هؤلاء إنّ الأوروبيين بدأوا بعدنا بعشر سنوات، أي بين العامين 1953 و1955، وها هم قد أوشكوا على التوحُّد الكامل، رغم الاختلافات الجغرافية والإثنية والثقافية الشاسعة. وينسى هؤلاء أنّ «الحرب الباردة» التي مزقتْنا، هي نفسُها الحربُ الساخنةُ التي جمعتْهم. فالسببُ الأولُ للتجمع الأوروبي هو الصراعُ الذي نشب بين القُطبين الأعظم بعد الحرب العالمية الثانية التي كانا فيها حليفين. فدفعت الولاياتُ المتحدةُ حلفاءها في أوروبا إلى التقارُب والتعاوُن لبناء ما هدَّمتْه الحرب العالميةُ الثانية، ولمواجهة الاتحاد السوفياتي وتحدّيه. وهكذا فقد كانت «التبعيةُ» لدى الأوروبيين، إذا صحَّ التعبير واحدة، بينما كانت «التبعيةُ» لدينا إذا صحَّ التعبير أيضاً، مزدوجة أو متعدّدة . فعلى أثر جمع مصر للدول العربية السبْع المستقلة رسمياً يومَها، من أجل إنشاء الجامعة العربية، عاد العربُ للانقسام إلى معسكرين: المعسكر الهاشمي، والمعسكر المصري/السعودي. ورغم كارثة فلسطين وإصرارهم على مواجهتها مجتمعين؛ ورغم خسارة الحرب آنذاك؛ فإنَّ كلَّ الأطراف اعتبرت أنّ انقسامَها ( وليس توحُّدها) هو الذي ينجّي أنظمتها بعد بدء الانهيارات على أثر الهزيمة الأولى أمام إسرائيل! وهكذا أفْضت الهزيمةُ في فلسطين، وانهيارات الأنظمة بعدها، واستقطابات الحرب الباردة، إلى عرقلةٍ كبيرةٍ لأعمال الجامعة وتقدمها في العقدين الأولين من عُمرها المديد بإذن الله.

بيد أنّ بلاءَ العرب الأكبر، وبلاءَ الجامعة العربية الأفظع بالتالي، كان أنظمةَ الضباط الثورية في بلدان العرب الرئيسية بين الخمسينات والسبعينات. وَمَنْ لا يذكر من شيبِنا وشيوخنا الإنجازات الثورية للبعثَين في سورية والعراق طوال الستينات والسبعينات، والإنجازات المهولة للقذافي في كل مكان. والطريف أنّ حجة الصراع الكبرى تمحورت حول أمرين: ضرورات الإسراع للوحدة العربية، وضرورات الإسراع في تحرير فلسطين. وهذان الإسراعان المزعومان هما اللذان تسبّبا في مغادرة الوحدة لديارنا لآمادٍ وآماد، وإلى حلول الهزيمة الثانية بنا عام 1967. وبعد حرب العام 1973 المجهضة النتائج، خرجت مصر من الصراع بكامب ديفيد، وانصرف صدَّام حسين لعدة مهامّ جليلة: الحرب على إيران، وتبادُل الضربات مع حافظ الأسد، وإنشاء مجلس التعاوُن العربي في وجه مجلس التعاوُن الخليجي. وانشغلت السعودية طوال الثمانينات بترويق الأمزجة بين صدّام والأسد حتّى لا تحدُثَ حربٌ بينهما، وبإطفاء نيران الحروب شبه الأهلية التي اندلعت بين اللبنانيين والفلسطينيين، وبين المغاربة والجزائرين، وبين القذافي وكلّ العالم. وخرجنا جميعاً مكسوري الجناح بعد غزو صدَّام للكويت. وتلهينا جميعاً ـ بعد تعذُّر اجتماع الجامعة على أي مستوى ـ بالثواليث والسواديس، بحيث مرَّت حقبة التسعينات المقْبضة، وما استفقْنا إلاّ على انفجار بن لادن عام 2001 بعد أن تبخرت كُلٌّ من مدريد وأوسلو، وما أدراك ما مدريد وأوسلو. أما العقد الأولُ من القرن الحادي والعشرين فكان عقد شارون وبوش، وعقد تحطُّم العراق، وعقد الانشقاقات الداخلية الإسلامية وغير الإسلامية في كل الدول العربية. وهكذا ففي حين استيقظ العالَم، وتهيأ للتغيير بعد انقضاء الحرب الباردة؛ كان العالَم العربي ـ وكأنما لا تكفيه استعمارات مائتي عامٍ لم تنقضِ ـ منشغلاً بستر الوجه والعورة أمام الحشود الأميركية الزاحفة.

ومع ذلك، فإنّ الجامعة العربية، في تاريخها الطويل، لا تشكو من قلة الاجتماعات، ولا من قلة القرارات. وإذا كانت الكوارث المتتالية ما شغلت العربَ عن الاجتماع؛ فإنها ولسببٍ لا نعلمُهُ شغلتهم دائماً وجميعاً عن متابعة القرارات التي اتّخذوها. والغاضبون على الجامعة العربية اليومَ يقعون في طليعة الذين ما نفّذوا أياً من قراراتها. وقد أضافوا إلى فضائلهم في المدة الأخيرة، وأثناء واقعة غزّة، أنهم أرادوا تقسيم العرب أكثر مما هم منقسمون، وأنّ العربَ الكبار ومعهم الجامعة، منعوهم من الانتحار، وَدَعَوهُم للمصالحة مع أنفُسهم أولاً، بدلاً من التصالُح مع العدوّ، ومع الراعي الأميركي الحادب على غَنَمِه!

إنّ لدينا اليومَ كما بالأمس وأَولَ من أمس مشكلات لا حَصْرَ لها. والجامعةُ العربية ليست هي المشكلة، كما أنها هي الإطار الوحيدُ والممكن للعلاج والحلول. وما داموا يريدون المصالحة، أو إذا كانوا يريدونها بالفعل، فالأَولى بهم أن يرضوا عن الجامعة، وأن يدخلوا في رَكْبها، وأن ينشدوا التعاوُن مع إخوانهم لمعالجة المشكلات التي كانوا هم في أصل العديد منها. لقد كان البريطانيون وطوال أكثر من خمسين عاماً من بين القلّة النافرة من الاتحاد الأوروبي. وها هو رئيس وزراء بريطانيا يصرخ في كلّ اتجاه، وبخاصةٍ باتجاه الفرنسيين والألمان والإيطاليين والإسبان، والذين جفاهُم بالأمس: لا نستطيع الخروجَ من الأزمة (المالية العالمية) إلاّ معاً. ولا نستطيعُ إنقاذ شرق أوروبا إلاّ بالتعاوُن فيما بيننا ومع الولايات المتحدة والصين وروسيا والعرب. فهل نكونُ أقلَّ بصيرةً من خصوم الأمس؟ لماذا لا نتقدمُ باتجاه العرب الكبار بدلاً من الاستعانة عليهم بمن هبَّ ودَبّ؟ ولماذا لا نتّعظُ بالماضي القريب ومآسيه، فنكفّ عن تعذيب الفلسطينيين والعراقيين واللبنانيين، ونتقدم باتّجاه «الجامعة العربية» التي هجرناها منذ عقودٍ بالفعل؟

ولا شكّ أنّ الأمينَ العامَّ للجامعة ما كان ليقولَ الذي قاله في بيانه بالذكرى الرابعة والستين لولا أنَّ الأمر جاوزَ حدودَ الاحتمال. لكنَّ الأمين العامّ صبر طويلاً، وكان عليه أن يصبر أكثر، لرؤية نتائج المصالحة في قمة الدوحة. وهي قمةٌ نرجو منها الكثير إذ فيها ستتبلور الزعامة العربية، ومن باب المصالحة، وليس من باب الاستقطاب. إنّ ما لم يُقَلْ طوال أكثر من خمسين عاماً، يستطيع أن ينتظر شهراً أو شهرين. فالتعبيرُ عن القَرَف صار خصلةً عربيةً سيئة، وهو شأنُ ثوريي العالم العربي، والعالم الثالث، والعقيد القذافي بالذات. وهو قرفٌ يجري التعبير عنه في العادة للإشعار بالرضا عن النفس، وتبرئة الذمّة غير الموجودة ، والتهرب من المسؤولية. وكلُّ هذه الأمور ليست من شأن الأمين العام. فلنُقبِلْ على جامعتنا التي لا جامعَ لنا غيرها. ولولا ضرورتها ـ ورغم تعبيرها المتلجلج لكنْ الباقي، في الدفاع عن العرب وجوداً ومصائر ـ لانتهت منذ زمن. ولو أنها تُركت للقرفانين الثوريين لحطّموها دون أن يرفَّ لهم جفن. فلنكن لأنفسنا لتكونَ الجامعةُ لنا في عامها الخامس والستين، وبعد عامها الخامس والستين!