العرب والنموذجان السنغافوري والسويسري

TT

من بين الإشكاليات التي تطرحها الأزمة المالية العالمية الراهنة السؤال المتعلق بالنموذج التنموي الملائم للوضع العربي. وكان قد تعزز في السنوات الأخيرة الاعتقاد بأن النموذج الأنسب للعرب هو المثال السنغافوري، خصوصا بالنسبة للبلدان النفطية المحدودة السكان، لما اتسمت به التجربة السنغافورية من حيوية اقتصادية مثيرة وإقلاع تنموي فريد، على الرغم من شح الموارد الطبيعية وندرة البشر وتنوع الأعراق والديانات. وبحسب هذا التصور يكفي لاستنبات النموذج السنغافوري اعتماد مبادئ ثلاثة بسيطة هي: إنشاء بنية تحتية صلبة تكون قاعدة جاذبة للاستثمار الخارجي مع تسهيل النظم القانونية والإجرائية للاستثمار وإعادة التصدير، الخروج من منطق التجاذبات السياسية والإستراتيجية الإقليمية والدولية واستغلال الحياد إزاءها ورقة استقطاب فاعلة، العمل على تثبيت الاستقرار السياسي والأمني بالحفاظ خصوصا على مستوى مرتفع من الرفاهية الاجتماعية للمواطنين والمقيمين.

وفق هذا المنظور، ذهب البعض إلى أن الشرط الضروري للنجاح في التجربة السنغافورية هو الخروج من منطق الهوية الخصوصية المعيق لحرية القرار ومبدأ الانفتاح، والاندماج في المنظومة الاقتصادية المعولمة والاستفادة من الإمكانات الهائلة التي توفرها.

حققت هذه التجربة مكاسب كبرى لا غبار عليها، بيد أن الأحداث الأخيرة أثبتت مخاطر حدود الطفرة المالية القائمة على جذب الرساميل الأجنبية دون سند من الاقتصاد الفعلي القائم على الموارد الذاتية والفاعلية الإنتاجية.

كما أنها طرحت إشكالات عصية تخص آثار الهجرة الأجنبية التي يقتضيها منطق التوسع التنموي على الهوية المحلية بمنظورها البشري والثقافي، مما كتب حوله المثقفون الخليجيون كثيرا في الفترة الأخيرة. يذكر نموذج سنغافورة بنموذج آخر هيمن طويلا على مخيلة بعض الساسة والمفكرين العرب وهو النموذج السويسري الذي رجح لبنان في الستينيات لاختباره، وكذا الأردن في التسعينيات. ويقوم النموذج السويسري على ثلاث سمات هي: الطابع الفيدرالي المرن لحسم مشكل التعددية القومية والدينية، والتسهيلات المالية والمصرفية لجذب الاستثمارات الخارجية، والحياد الاستراتيجي إزاء تناقضات النظام الدولي.

حقق هذا النموذج نجاحا كبيرا بحيث أصبح هذا البلد الأوروبي الصغير محدود الإمكانيات في المركز الأول من حيث التنمية الإنسانية والرفاهية الاجتماعية والاستقرار السياسي. وإذا كان لبنان نجح في الستينيات بالفعل في أن يكون «سويسرا الشرق الأوسط» حسب التشبيه المأثور، إلا أن تجربة الحرب الأهلية الطويلة أجهضت هذا الحلم، بحيث بدا من البين أن النظام الديمقراطي القائم على المحاصصة الطائفية لا يحقق الاستقرار السياسي المطلوب، كما أن الحياد اللبناني استغل عربيا لجلب صراعات المحاور العربية إلى بلاد الأرز المنكوبة.

ومع أن الوضع الأردني يختلف في العمق عن السياق اللبناني من حيث التركيبة الديمغرافية، إلا أن المملكة الهاشمية حاولت في تسعينيات القرن الماضي استنبات النموذج السويسري على المستوى الاقتصادي والتنموي، مستفيدة من بعض المستجدات المساعدة لعل أبرزها: حالة الحصار المضروب على العراق الذي حول الأردن إلى المنفذ الوحيد لهذا البلد النفطي الكبير، أجواء التسوية السلمية للصراع العربي ـ الإسرائيلي التي بدت أوانها مؤشر معادلة جديدة في المنطقة (مشروع الشراكة الشرق أوسطية الذي صممه الرئيس الإسرائيلي الحالي بيريز وتبنته إدارة الرئيس كلينتون)، حالة الاستقرار السياسي النسبي غير المسبوقة التي عاشها الأردن. بيد أن التجربة الأردنية اصطدمت بفشل مشروع التسوية وما تلاه من عدوان إسرائيلي شرس على المناطق المحتلة وبأجواء الحرب على العراق، مما أرجع الأردن إلى دوره الاستراتيجي السابق كفضاء التجاء من ساحة المواجهات والصراعات الإقليمية. إلى جانب النموذجين السنغافوري والسويسري اللذين ألهبا المخيلة العربية، سيطر النموذج الياباني على العديد من الدول العربية، وخصوصا الدول الكبرى التي بدا فيها مشروع نهضوي حديث منذ القرن التاسع عشر، وفي مقدمتها مصر (وكذلك تونس التي لا شك أنها حققت مكاسب تنموية مهمة في العقدين الأخيرين اقتضت تنويه المؤسسات الدولية).

وإذا كانت التجربتان السنغافورية والسويسرية ولدتا أسئلة محدودة تتعلق في مجملها بالقواعد والمعايير الإجرائية والخيارات التنموية، فإن التجربة اليابانية طرحت أسئلة عصية تتعلق بفلسفة النهوض وعلاقة الهوية والثقافة بالتنمية، مما يتطلب النظر فيه فسحة أوسع.