بناء رأسمالية أفضل

TT

ما نوع الرأسمالية التي نرغب في بنائها؟ هل فشلت أصولية السوق ـ التي كان معيارها الأول زيادة رأس مال حملة الأسهم ـ التي التزمنا بها طوال العقود الثلاثة الماضية بصورة كلية؟ هل ما صرح به ألان غرينسبان عندما أعلن عن صدمته في أن «مؤسسات الإقراض الساعية وراء مصالحها الشخصية لحماية حصص حملة الأسهم» باتت نوعا من الخداع؟

وقد حذر لاري سومرز، كبير مستشاري الرئيس أوباما، خلال المقابلة التي أجرتها معه صحيفة «فينانشيال تايمز» من المبالغة في الحذر فقال: «أولئك الذين حاولوا تعلم الدرس كما في الثلاثينات من أن رأسمالية السوق توقفت عن العمل وبحاجة إلى أن نستبدل بها نموذجا مختلفا كلية، غير أن أحدا لم يقترح نظاما جديدا تماما ولذا فإننا بحاجة إلى ـ وهو ما يمكننا بناؤه ـ رأسمالية تتناغم مع مصالحنا القومية.

لقد انهار نموذج ريغان ـ تاتشر الذي دعا إلى تمويل الصناعة المحلية، وأدي تراجع التصنيع الأميركي إلى إرهاقنا بميزان تجاري سلبي ومجتمع أعمال أقل اهتماما بالقدرات الإنتاجية للولايات المتحدة. وعندما هيمنت الشركات الصناعية على الاقتصاد القومي في الخمسينات والستينات، استفادت من تطورات البنية التحتية في مجالي التعليم والبنية التحتية، حيث خدم نظام الطرق السريعة بين الولايات وقانون التعليم للعائدين من الحرب العالمية الثانية، شركة جنرال موتورز والولايات المتحدة. وفي الفترة بين عامي 1875 و1975، زاد مستوى متوسط سنوات التعليم بالنسبة للأميركيين بواقع سبع سنوات، ليسهم في خلق قوى عاملة أكثر تعليما فاقت أيا من منافسينا، غير أنه مع بداية عام 1975 لم ترتفع تلك المعدلات على الإطلاق، وأسهم ارتفاع التمويل والعولمة في قطع الصلة بين الرأسمالية الأميركية ومصالح الولايات المتحدة.

وعندما تحول التصنيع إلى لغة عالمية، لم تتمكن الولايات المتحدة من العودة إلى مستوى التصنيع الذي كانت عليه في الأيام السابقة لكينز وآيك، لكنها ستكون تطورا إيجابيا إذا ما استعدنا الرأسمالية السابقة التي ركزت على التصنيع أكثر من الاتفاقات، وفي ألمانيا لا يزال التصنيع مهيمنا على التمويل، ولعل ذلك هو السبب وراء تصدر ألمانيا قمة جدول الدول المصدرة، فلم تلجأ ألمانيا إلى تجربة التمويل التي اجتاحت الولايات المتحدة وبريطانيا في الثمانينات، لأن شركاتها سعت بصورة جزئية إلى رفع رأس مالها من العوائد المحتجزة والبنوك بدلا من الأسواق. وقام مديرو الشركات بوضع سياسات بعيدة المدى، في الوقت الذي باتت فيه ضغوطات السوق بالنسبة للأرباح قصيرة المدى محل مراقبة. وقد كان تفضيل الأداء بعيد المدى على المكاسب قصيرة المدى، محل تعزيز من قبل حاملي الحصص الألمان في الشركات، بدلا من حاملي الأسهم، ونموذجا للرأسمالية: عبر وجود ممثلي العمال في مجالس الإدارة والارتقاء بإنشاء الاتحادات وتوزيع أكثر عدالة للدخل وإعانات اجتماعية أكثر سخاءً. وعلى الرغم من ذلك، أصبحت الشركات الألمانية من الشركات الأكثر تنافسية على مستوى العالم في قدرتها المالية وجودة منتجاتها. نعم، إن الاقتصاد الألماني الذي تغذيه الصادرات بات في خطر نتيجة لانهيار الاستهلاك، لكن صيغته من الرأسمالية أثبتت جدارتها أكثر من رأسمالية وول ستريت.

وإلى جانب تعزيز الصناعة، يجب علينا أن نأخذ درسا من نموذج الرأسمالية الاشتراكية في الدول الاسكندنافية، التي تعد أقل اعتمادا على التصنيع من النموذج الألماني، وقد قامت الدول الاسكندنافية بتحديث مهاراتها وأجور عمالها في قطاعات التجزئة والخدمات، وهي تلك القطاعات التي تعمل فيها غالبية قوتنا العاملة، ونتيجة لذلك فإن العمالة التي تعمل بدوام كامل وتعرضت للفقر والتي توجد بالملايين في الولايات المتحدة غير موجودة في الدول الاسكندنافية.

وللتأكد من ذلك فإن هذه الصيغة من الرأسمالية تتطلب قطاعا عاما أكبر من الذي كنا نملكه في السنوات الأخيرة، لكن الاستثمار في المعلمين والممرضات وعمال رعاية الطفل ذوي المستوى المرتفع من التدريب والذين يحصلون على رواتب مرتفعة سوف تنتج رخاء مستداما أكثر من الاستثمار في فقاعة الأصول التي أوقعت بوول ستريت.

فهل من الممكن أن تخفض تلك التغييرات ديناميكية الاقتصاد الأميركي؟ ليس بالضرورة، خاصة أن وول ستريت غالبا ما تخطئ في التعامل مع الديناميكية. ونظرا لأن التمويل يساعد على احتجاب التصنيع كقطاع مهيمن، فإن معدلات الانتقال بين الأجيال قد انخفضت إلى ما دون تلك الأقل ديناميكية في أوروبا.

إن رأسمالية وول ستريت تموت وقد لحقها الخزي. وبات الأمر مهيأ الآن لاستحداث نموذج أفضل.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»