نحو اجتثاث فعّال لمؤامرة تفكيك العراق

TT

حالهم حال العرب السنة، وقع العرب الشيعة في العراق ضحية مؤامرات خارجية وداخلية، متعددة المصادر، ذهب ضحيتها أبرياء لا ذنب لهم في كل ما حصل. أُريدَ بتلك المؤامرات التي مُنيت بفشل لم يتحقق الحسم فيه كما ينبغي، تمزيق تشابك خيوط النسيج الوطني، وتعميم الفوضى إلى دول المنطقة لتحقيق مآرب لئيمة.

وإذا كانت كلمة «اجتثاث» لا تخالف المنطق الإنساني، فالعراقيون بأمس الحاجة لتطبيقها على التوجهات العنصرية الشوفينية والطائفية، التي حاول مروجوها الرقص على أنغام اجتهادات معينة، لأهداف تبتعد كل البعد عن الشعارات المطلية بصبغة الديموقراطية زيفا.

وإذ طغت كلمة الاجتثاث على المشهد السياسي والقانوني العراقي، من خلال استهداف حزب البعث لتفكيكه، فإن عدد البعثيين كان بحدود (1200000) منتسب، منهم 32000 عضو قيادة فرقة و6000 عضو قيادة شعبة، طبقا لإحصاءات الاجتثاث. وهو رقم ليس كبيرا، حيث لم تتعد نسبتهم 8% من نفوس العراق. مما يعطي تصورا عن أن الانخراط في صفوف الحزب لم يكن قسريا، بل إن المواقع الحساسة والمهمة أخذت طابعا بعثيا ملزما، وهذه مسألة لم يتفرد بها هذا الحزب، قياسا بحالات مماثلة في بقع أخرى من العالم.

وكانت النظرة قاسية في عملية الربط التصويري بين البعث، عموما، والنازية وغيرها، وبين ما حصل في العراق ودول أخرى ارتكبت فيها أعمال منافية للمنطق البشري. وحيث أيد السياسيون لفترة ما بعد سقوط النظام السابق، التخلص من هذا الحزب، فإن المنطق يفرض أخذ عدد من الملاحظات بعين الاعتبار.

إن حرمان 38000 عنصر يحمل صفة ثقافية ومهنية من ممارسة الحياة العامة بشقيها الوظيفي والسياسي، يجعلهم يشعرون بحرمانهم من مفاصل مهمة من حقوق المواطنة، خصوصا عندما يتنامى شعور بعدم المساواة في تطبيق الضوابط من قبل بعض مؤسسات الدولة، حتى بعد إقرارها بتوازن من قبل هيئة الاجتثاث. ولم يكن كل البعثيين موالين للنظام السابق، والدليل على ذلك العقوبات القاسية التي طالت عددا كبيرا منهم، على هامش التآمر وغيره.

وحيث تلقت قيادة الحزب ضربة قاضية، فإن الفصل بينها وبين القواعد أصبح متاحا بدرجة كبيرة، خصوصا مع التغيرات الحاصلة، وكان ممكنا انتقال هؤلاء طوعا إلى أحزاب وكتل سياسية بتوجهات مختلفة تفقد الحزب القدرة على التهديد، وتؤدي إلى انصهار هؤلاء مع المتغيرات الجديدة، ولا يزال التصور متاحا. وكان، ولا يزال، ممكنا تحقيق إكمال الغرض بمنع الحزب من العمل السياسي بشكل مباشر أو بواجهات منظمة.

وإذا كانت احتمالات عودة الحزب للاستيلاء على الحكم قائمة في مرحلة سابقة، فقد تآكلت كليا بعد ست سنوات على التغيير، فيما ظهرت وكُرست توجهات طائفية وعرقية تتطلب الاجتثاث، لأنها أكثر خطرا على العراق مما يراد وصفه من تهديد حزب البعث. سنية كردية شيعية، ووصلت إلى يزيدي وشبكي ومسيحي وصابئي.. وانقسم التركمان في ما بينهم.

فهل يمكن بناء بلد تعلو فيه مصلحة الطائفة على المواطنة؟ وهل سُمع ذلك في أوروبا الحديثة وأميركا؟

إن هيبة الدولة، عندما تكون عادلة، تمثل قاعدة البناء الأساسية، وكلما تأسس البناء على قواعد رخوة، من مواد متنافرة، تفتتت الأسس تحت وطأة ثقل البناء، فيصبح الانهيار حتميا بمرور الوقت.

هيبة الدولة لا يمكن أن تتحقق في حال استمرار الخلل الناجم عن وضع بنود، أو تفسيرها، على أساس إضعاف مركزية الدولة، لترتدي البلاد ثوبا جميلا، لكنه مهلهل، تظهر من خلاله العورات، فتتضخم المساوئ، لغرض إثبات عدم جدوى التعايش وترجيح كفة المفاصلة، وهو ما رُوج له بشعار الفيدرالية.

الفيدرالية، في دول الشرق، كالتوافق تماما، كلاهما دليل على عدم التجانس، وإضعاف لسلطة الدولة، وتعقيد ما بعده تعقيد لسلطة اتخاذ القرار. لكن الحالتين مشروعتان فقط في حال غياب العدل والإنصاف، وعندما يحصل خلل خطير في هذين العنصرين الحاسمين يُلجأ إلى التقويم بالوسائل الديموقراطية الفعالة، وإن عجزت، فالخيارات الأخرى يصبح فتحها مشروعا. وما أكثر المسميات اليوم في العراق: حكومة اتحادية، فيدرالية، مركزية، حكومة إقليم، حكومات محلية، اتحاد فيدرالي، اختياري، إقليم، أقاليم..! فيما يفترض وجود حكومة واحدة اسمها الحكومة العراقية.

الذين ساهموا في كتابة الدستور، بمن فيهم العرب السنة، أسسوا لتعقيدات اليوم، تحت وطأة المعاناة مما مضى، والخوف مما هو آت، أو التسليم بالرجوح العددي لرأي الآخرين. لكن غالبية المشاركين يرون اليوم تعقيدات في ما كُتب. فهل يعقل التسليم بما حصل؟

وعندما يجد العراقيون فقرات من دستورهم تعطل الحياة وتقدم خدمة للتفكك وزرع بذور الشك، فمن واجبهم العمل على التغيير، وأول ما ينبغي تناوله هو المواد التي تعرّض البلد إلى التفكك والنسيج إلى التمزق. أما اعتبار التعديل نكثا للعهد، فيمهد إلى الخرق والتعطيل. لأن الشعب غير قادر على تحمل أعباء الالتزام بالمواد المثيرة للجدل والخلاف وعدم الاستقرار؟ وربما أن السياسيين أنفسهم لا يتحملون ثقل تركة ما كُتب.

وإذ يصل الحديث إلى واقع الجيش (السابق)، وتعزيز قدرات التشكيلات الحديثة، فهل من مصلحة البلد أن تضرب أسس قوة البلد؟ وهل من المصلحة الوطنية فتح جدال، أنت قاتلت في جيوش صدام، ليقول الآخر، وأنت قاتلت لسنين، جنبا إلى جانب مع جيش خارجي كان عدوا للبلد؟ وهل استقرت الظروف على قاعدة انتهاء احتمالات وقوع حروب قديمة جديدة، حتى إذا فرضت على الدولة، وهو احتمال غير مستبعد؟

غالبية العراقيين يؤيدون اجتثاث البعث كحزب منظم عامل، وليس اجتثاث مواطنين عملوا فيه. ولكي ينهضوا، (العراقيون)، بواقعهم، فإن الاجتثاث ينبغي أن يطبق على (الأفكار) التقسيمية، وأن تعمل الأحزاب بطريقة التحول، والتطور الطبيعي، إلى نظريات علمية وحضارية مختلفة، بفتح أبوابها أمام كل العراقيين، فيصبح كل حزب وطنيا شاملا. عندئذ يفخر العراقيون بديمقراطيتهم.