البساطة وعدم التعقيد

TT

في الستينات الميلادية كان لي قريب يدرس في فرنسا، وتعرف على أسرة فرنسية وكون صداقة معهم، وصادف أن ذهب رب تلك الأسرة مع زوجته إلى جدة في رحلة عمل استمرت عدة أيام، وبعد أن رجعا سألهما قريبي عن أفضل ما شاهداه ولفت نظرهما هناك، فقالا له بدون تردد: إن أروع ما شاهدناه هو الفنادق المنتشرة في الصحراء على جانبي الطريق في الهواء الطلق.

ولكي أضع القارئ بالصورة أقول له: إن جدة في تلك الفترة وقبل طفرة أسعار البترول كانت مدينة صغيره للغاية ولم تكن فيها غير طريقين رئيسيين، الأول إلى مكة المكرمة والثاني إلى المدينة المنورة، وبحكم أن الفنادق قليلة وأغلب الناس في ذلك الحين لا يستطيعون تحمل أسعارها، لهذا انتشرت على هذين الطريقين المقاهي التي كانت كراسيها تشبه الأسرة، وتراها بالليل تمتلئ بالذين يتباسطون عليها ويشربون ويدخنون ويأكلون، وقبل أن ينتصف الليل يتمددون عليها وينامون، وكانت أسعارها زهيدة، وتستطيع أن تعد نجوم السماء وأنت متسطح كهارون الرشيد، ولكن للأسف بدون جوارٍ.

ومن محبتي لمثل هذه الأجواء فقد وافقت أحد الزملاء على أن أرافقه في سيارته (المدرعة) في رحلة سياحية في أوروبا لا نسكن فيها في أي فندق غير (خيمتنا) التي معنا.

اتصلنا أولا بأحد المكاتب التي تقدم خدمات واستعلامات لكل من يريد أن يقوم بمثل هذه الرحلات، ومن خرائط (ميشلان غايد) المخصصة لأصحاب السيارات، ومن (البروشورات) التي تعطينا التعليمات استطعت أن أعرف أن هناك ملايين الأوروبيين الذين يقضون إجازاتهم على هذا النحو سنوياً، كما أنهم يعطونك فكرة واسعة عن كل معسكرات التخييم في كل دولة، وعن مواقعها، وأسعارها، وطبيعة جوها، ونواحيها الأمنية، والمناطق التي تحيط بها من أتربة، أو جبلية أو ساحلية، وإرشادات لصرف العملات وأماكن التسوق والصيدليات وحتى المراقص وعلب الليل القريبة من المعسكر مذكورة في تلك البروشورات. ومن إيطاليا دخلنا إلى سويسرا، وكنا ننصب خيمتنا التي تتسع لأربعة أشخاص بسهولة، كنا ننصبها خلال عشر دقائق فقط، وكنت أستمتع بالنوم بداخلها أكثر مما أستمتع بالنوم في أرقى الفنادق.

وتتوفر في كل معسكر الكهرباء اللازمة، والغاز، والماء، ودورات المياه، والغسالات، والمطاعم، وفي كل ليلة تقام هناك حفلة راقصة يشارك فيها الجميع دون أية دعوات وتنتهي في العاشرة والنصف ليلا، وبعدها يفرض على الجميع الهدوء فلا تلفزيون ولا راديو ولا أصوات عالية، ومن بعد الثانية عشرة ليلا يفرض نهائيا حظر التجول، ولا يتحرك غير رجال الحراسات، أو أحد الأشخاص يذهب مضطرا إلى الحمامات.

ولا أنسى في أحد المعسكرات رجل وامرأة ومعهما أطفالهما الثلاثة، وكانوا في منتهى السعادة والانطلاق باللعب والركض والسباحة في البحر، وهذا لا يتسنى لهم بمثل هذه الحرية في أي فندق.

وأقسم لكم بالله أن الثلاثة أسابيع التي بدأناها من إيطاليا وانتهت على شواطئ البحر المتوسط في فرنسا، قد مرت سريعاً وكأنها ثلاثة أيام.

هناك وسائل غير مكلفه للاستمتاع بالحياة، أهم تلك الوسائل هي: البساطة وعدم التعقيد، وإنني أرثي لهؤلاء الذين لا تكفيهم الطائرات الخاصة ولا (السويتات) ولا الحراسات، ويدفعون الغالي والنفيس لكي يظفروا بالسعادة، ولكنها تفر منهم مثلما يفر السليم من الموبوء.

[email protected]