أوقفوا الحرب المخادعة

TT

رغم الثورة التشريعية العارمة المحيطة بالأزمة الاقتصادية، لا نزال نعيش في فترة أشبه بـ «الحرب المخادعة» التي شهدها العالم عامي 1939 و1940، فرغم إعلان الحرب ضد الركود الكبير، ما تزال الجوانب السياسية تدار على النحو المعتاد، حيث يستمر التشاحن وسوء الإدارة اللذان أسهما في خلق هذه الأزمة، مع أننا انتخبنا رئيسا وعدنا بعهد جديد.

وتُنْبِئْنا التجارب التاريخية أن الحروب المخادعة لا تدوم إلى الأبد، وأنها عندما تحين نهايتها، تفتح أبواب الجحيم على مصراعيها. على سبيل المثال، اندلعت الحرب العالمية الثانية رسميا عندما هاجمت ألمانيا بولندا في سبتمبر (أيلول) 1939، بيد أنه على امتداد شهور عدة، لم يتجاوز القتال مرحلة المناوشات. وجاءت نهاية هذه المرحلة في 10 مايو (أيار) 1940، بغزو هتلر لبلجيكا والدول المجاورة لها. وأطيح بنيفيل تشامبرلين من منصبه كرئيس للوزراء في بريطانيا، وحل محله وينستون تشرشل الذي بدا كملاك أتى للثأر.

والآن، لا نزال نحيا في مرحلة نيفيل تشامبرلين فيما يخص الأزمة الاقتصادية، حيث تتحدث الحكومة عن التضحيات والحلول، ومع ذلك، لم تتخذ حتى الآن القرارات الصعبة التي من شأنها دفع الاقتصاد للنهوض من جديد. لقد كان الخبير الاقتصادي ديفيد سميك محقاً في مقاله الذي نشره في «واشنطن بوست» هذا الأسبوع عندما قال «إن الإدارة لديها استراتيجية ذات ثلاثة محاور: الإرجاء، والإرجاء، والإرجاء». ويتضح ذلك من إعلان الإدارة عن حزمة إنقاذ مالي، مع عدم إفصاحها عن التفاصيل، وإطلاقها وعود بإقرار النظام داخل الميزانية، لكنها ترجئ اتخاذ القرارات الصعبة.

من بين الأسباب وراء الطابع السياسي القوي المهيمن على الفترة الحالية تكديس أوباما لعدد كبير من السياسيين والمسؤولين الحكوميين السابقين داخل إدارته. وربما يراود المرء الاعتقاد أنه مع مواجهته لأكبر أزمة مالية في حياته، ربما يرغب الرئيس في تعيين بعض القيادات التجارية المتمرسة في إدارة المؤسسات الكبرى التي تعاني من أزمات. لكن هذا لم يحدث في فريق الوزراء المعاون لأوباما، الخالي من أي صبغة تجارية، ففي وزارة الخزانة، وقع الاختيار على مسؤول حكومي سابق، ولوزارة الخارجية، اختار أوباما سيناتورا سابقة، وفي وزارة التجارة، اختار حاكما سابقا، وتولى منصب وزير الدفاع مسؤول حكومي ورئيس جامعة سابق، ومنصب وزير الطاقة تولاه بروفيسور سابق، ووزارة الأمن الداخلي تولى قيادتها حاكم سابق، وتولى حاكم سابق أيضاً مسؤولية شؤون الخدمات الصحية والبشرية. كما اختار أوباما لرئاسة فريق العمل المعاون له داخل البيت الأبيض عضوا سابقا في الكونغرس، وعين رئيس جامعة ومسؤول حكومي سابق في منصب كبير المسؤولين الاقتصاديين داخل البيت الأبيض. والواضح أن ثقافة الجمود تبدأ من الكونغرس، الذي يكتفي أعضاؤه بالعمل لأربعة أيام أسبوعيا، ويضمون أيام الجمعة لإجازاتهم الأسبوعية، بحيث يتمكنون من العودة سريعاً إلى دوائرهم، وإطلاع الناخبين على حجم الجهد الذي يبذلونه. ربما يتحدث هؤلاء المسؤولون عن أزمة، لكنهم لا يتصرفون بأسلوب يعكس شعورهم بوجود أزمة حقيقية.

من ناحية أخرى، لم يزل الجمهوريون والديمقراطيون يتمسكون بتوجهاتهم الحزبية عند تصويتهم على الكثير من القضايا الحيوية. من جانبهم، جاء سلوك الديمقراطيين مشيناً بتكديسهم مشروعاتهم المفضلة داخل مشروع قانون الحوافز الاقتصادية، رغم أنها لن تحفز ـ في حقيقة الأمر ـ سوى الإسهامات في الحملات الانتخابية للحزب، إضافة إلى ما تنطوي عليه من تمسك بالتوجهات المميزة للحزب، وهو اعتداء رمزي سبق أن تعهد أوباما بالقضاء عليه خلال حملته الانتخابية، إلا أن سلوك الجمهوريين كان أسوأ فيما يخص استراتيجيتهم القائمة على معارضة خطط إنعاش الاقتصاد، وقد أضفى ذلك صبغة تشريعية على تصريح راش ليمبا قائلا «آمل أن يفشل».

وقد أشارت صحيفة «نيويورك تايمز» في عنوان رئيسي خلال الأسبوع الحالي إلى هذا التلاعب التشريعي «ميزانية أوباما تواجه تحدياً من جانب بارونات الأحزاب: رؤساء لجان يعارضون خطة ضريبية ويرغبون في خفض الديون». والآن، بات من الضروري وضع حد لهذا الهراء. والتساؤل الأهم الآن: «ماذا سيحدث في حال إخفاق جهود أوباما؟». هذا هو التساؤل الذي يؤرقني حقاً عندما أستعرض الأحداث التاريخية الماضية. خلال ثلاثينات القرن الماضي، فشل القادة الأوروبيون في تسوية الأزمة الاقتصادية عبر السبل الديمقراطية المعتادة. وعليه، تحولت الجماهير بأعينها في اتجاه آخر. وانتاب الشعوب غضب عارم حيال المصرفيين وكبار رجال الأعمال وأعضاء البرلمان المتشاحنين، مما دفعهم إلى التحول إلى القادة الاستبداديين الذين وعدوا باتخاذ إجراءات فعلية وطنية في صورة الفاشستية. ربما تبدو إمكانات تحقق هذا السيناريو المروع بالغة الضآلة في الوقت الراهن، لكن تبقى الحقيقة أن هناك مزاجاً عاما بشعاً آخذاً في الظهور الآن، مع بحث الجماهير عن أشرار لتحميلهم مسؤولية الفوضى الاقتصادية التي نعانيها. والمؤكد أن مسؤولي إدارة أوباما يشعرون بالقلق، وهو شعور يمكن تفهمه، حيال اتخاذ خطوة كبيرة في اتجاه غير واضح المعالم، من خلال فرض إجراءات مالية طارئة، ربما تسفر عن إشهار إفلاس وتأميم شركات إنتاج السيارات الكبرى والمصارف العملاقة. ومن جانبي، آمل أن يتوصل مسؤولو الإدارة إلى توجهات أكثر إبداعاً واعتماداً على السوق، تقوم على تفكيك الكيانات العملاقة، بدلاً من محاولة ترميمها بصورة سطحية تحت ملكية الحكومة.

على أية حال، يجب أن تنتهي الحرب المخادعة الحالية، وأن يطالب الرأي العام باتخاذ إجراءات عملية. وحال إخفاق هؤلاء السياسيين في تنفيذها، ربما تتحول الجماهير في اتجاه مجموعات أخرى من السياسيين أكثر ترويعاً.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ («الشرق الأوسط»)