وجهان لعملة.. قمة الـ«20» في لندن

TT

يستضيف رئيس الوزراء جوردون براون 19 من زعماء الدول في مؤتمر قمة العشرين «لإنقاذ» العالم من الإفلاس المالي يوم الخميس القادم.

كل من طلبت رأيه من المتخصصين في شؤون المال والتجارة شكك في قدرة المؤتمرين على العثور على مصباح علاء الدين السحري لتلبية رغبات العالم واتفق على ضرورة أن تكون الوصفة السحرية عالمية التطبيق وفورية.

وباستثناء توجيه اللوم للمصرفيين «الجشعين» الذين أقرضوا المليارات لغير القادرين على دفعها، وكل همهم «العمولة» التي يستخلصونها من إنجاز اتفاقية القرض، فلا اتفاق على السبب الحقيقي للأزمة. وتشبيه ذلك هو العجز عن معرفة مصدر العدوى فيقف الطب عاجزا عن شفاء المرض ويكتفي بصرف المسكنات.

سنشهد الخميس آلافا من اليساريين والفوضويين والمتبيئين (مشتقة من الولع بحماية البيئة Envirophilia وسأسميها البيئوفيليا وتصبح من الممتلكات الفكرية لصحيفة «الشرق الأوسط») ومحترفي التظاهر (خاصة من يقضون الوقت يستمعون للموسيقي الثورية وتدخين ما تيسر كالتلامذة وغير المضطرين لإعالة أسرة ـ «كالهيبيز» في شبابي).

بعكس الزعماء العشرين، سيتوحد المتظاهرون حول هدف واحد «فليسقط النظام الرأسمالي» ويعتبره خطباؤهم في ميدان الطرف الأغر المسؤول الأول عن الأزمة.

سيتجمعون ليلة الأربعاء لإعداد لافتات مثل «فلتسقط الرأسمالية وتعيش البيئة» أو «إلى الجحيم يا مدراء البنوك وبئس المصير» أو «مارس الحب ولا تمارس الحرب» أو «فلتسقط العولمة» أو «أحرق مصرفيا تدخل الجنة» وسيعدون دمى في شكل مدراء البنوك أو «المستر رأسمال» لشنقها أو حرقها، ويقسمون أن مظاهرة لندن ستكون أكثر صخبا وعنفا من مظاهرات ديفوس وقمة السبعة أو الثمانية (فزعماء المتظاهرين من الطلاب الذين يتيح مصروف الجيب فرصة سفرهم بالطائرة من مظاهرات عالمية إلى أخرى).

سيحاولون استفزاز البوليس و«أهلا بالمعارك» (مع الاعتذار للأغنية الشهيرة للراحل «حليم») لضمان افتتاحيات متعاطفة في صحف اليسار و«البي بي سي».

وكصحفيين نتمكن من قياس الفكر لتيار سياسي معين من هتافاتهم ولافتاتهم. أصحاب المعاشات، كانت لافتاتهم واضحة «ربط زيادة المعاش بغلاء المعيشة»، أو مظاهرة اتحاد الطلاب تهتف «لا لزيادة الرسوم» وهكذا.

ولا أعتقد أننا سنسمع هتافات تحدد اتجاها سياسيا معينا بين المتظاهرين ضد قمة العشرين سوى رفض الرأسمالية.

وبينما يطوف رئيس الوزراء براون العالم «لإقناع» زعمائه بخططه المالية لإنقاذ الإنسانية من الأزمة الاقتصادية، قدم محافظ بنك إنجلترا (الذي يصدر النقد ويحدد سعر الفائدة)، مذكرة مفتوحة يحذر فيها الحكومة من خطورة سياستها المالية على اقتصاد الأمة. فالإنفاق دون إنتاج حقيقي يعني ارتفاع مديونية ميزانية الدولة وتحميل الديون للأجيال القادمة.

الصحافة تتساءل كيف يمكن لرئيس الحكومة أن يقنع زعماء بلدان مستقلة لا تملك بريطانيا أي أوراق ضغط عليها، أو حوافز استثمارية لجذبهـا، بتبني خططه المالية إذا كان غير قادر على إقناع البنوك التي منحها المليارات (مما يعني تأميمها جزئيا أو كليا) من خزانة الدولة، بأن تؤدي واجبها بإقراض الحرفيين وأصحاب الورش والمطاعم والفنادق، والمصانع الصغيرة التي تقفل أبوابها وتسرح عامليها بسبب جفاف السيولة النقدية.

وعلى المستر براون أن يفكر كيف ستخط ريشة التاريخ صفحات فترة حكمه إلا إذا كان مؤتمر العشرين سيخرج بعلاج محدد للأزمة المالية.

وحتى كتابة هذه السطور لم تقدم لنا مصادر داوننغ ستريت، في لقائهم اليومي معنا، أية تفاصيل عن أجندة المؤتمر تجعلنا ننشر أخبارا طيبة للقراء (وهناك مشاركة معتبرة من بلدان الشرق الأوسط).

هل سيعود بقية الزعماء الـ19 لبلادهم لا يحملون إلا الصورة التذكارية لعشرين زعيما تناقشوا تحت غيوم لندن فاتفقوا على ألا يتفقوا لمواجهة أسوأ أزمة مالية تواجه العالم منذ كساد الثلاثينات؟

هل سيقتنعون بأن حماية المنتجات الداخلية لكل بلد ستخرب إنجازات العولمة والتجارة العالمية خاصة أنه لا توجد سلعة اليوم سواء من طائرات الجامبو، لناقلات البترول، حتى أجهزة التلفزيون ولعب الأطفال، صنعت مكوناتها في بلد واحد؟

فربما تجمع في بلد واحد، لكن المكونات جاءت مما لا يقل عن عشرة بلدان.

رأينا الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يدفع شركات صناعة السيارات الفرنسية لنقل خطوط التشغيل والإنتاج إلى فرنسا، وهذا لا يهدد فقط بفقدان مئات، وربما آلاف من العاملين (الذين يعولون أسرا وينشطون سوق الخدمات) في أوروبا الشرقية بالبطالة، بل برفع أسعار السيارات المنتجة في فرنسا فتكون في غير متناول الأسر البسيطة، وتؤدي إلى رفع معدلات التضخم. وبينما ترتفع هذه المعدلات في فرنسا، تجدها تنخفض هنا في بريطانيا إلى الصفر، ويحذر الخبراء من أنها تبدأ في الانكماش لتصل أسعار بعض السلع إلى ما دون الحدية الربحية (الثمن أقل من سعر التكلفة).

والحماية الجمركية مع تناقص القدرة الشرائية لمواطني البلدان الغنية، لها أثر كبير على إنتاجية الأفراد ومستوى معيشتهم في البلدان الكثيفة السكان كمصر والهند، وحتى البلدان السريعة التنمية (تايلاند، إحدى النمور الآسيوية، تناقص اقتصادها بمعدل 30% مثلا). وهذه الأمراض الاقتصادية كانت العولمة قد بدأت علاجها بنجاح.

وإذا لم يتمكن الزعماء العشرون من الخروج باتفاقيات قابلة للتنفيذ الفوري لتوسيع حركة التجارة العالمية وتنشيطها، فإن ذلك سيكون فشلا ذريعا لن يغفره التاريخ. كما أنها جريمة أخلاقية في حق البلدان الفقيرة. فمثلا لا تزال أوروبا تنفق أكثر من 70 مليار دولار على دعم الفلاحة والمنتجات الزراعية (ونصفها يحرق بعد فساده) وأميركا تنفق حوالي 24 مليارا لدعم مزارعيها، بينما لا يجد المزارعون الأفارقة فرصا أو أسواقا لبيع المنتجات (رطل الطماطم هنا في بريطانيا ثمنه يفوق ثلاثة دولارات، من المزارع المدعومة، بينما يمكن أن يباع بدولار واحد إذا استورد من مصر أو نيجريا).

وفتح التجارة العالمية هنا لا يعني أن البلدان النامية والمزدحمة بالسكان ستتجنب كارثة اقتصادية بالبطالة والكساد (إذا حذت البلدان الغنية حذو ساركوزي ونقلت صناعاتها من أفريقيا وآسيا إلى بلدانها)، والإفلاس فحسب، بل سيعني هذا تمكن مواطني بلدان العالم الأول من الحصول على منتجات بأسعار معقولة، ويخلق وظائف جديدة في مجالات النقل البحري، وبناء السفن ومد السكك الحديدة.

ولعلنا نرى مثقفي اليسار البريطاني ومفكريه يقدمون الحلول بتيسير التجارة العالمية وتخفيف قيود الحماية الجمركية وتطوير التجارة العالمية (لمصلحة المستعمرات القديمة كما يقولون) في الخطب التي سيلقونها في ميدان الطرف الأغر على الذين خرجوا في المظاهرة الكبيرة ضد النظام الرأسمالي بعد أن استمعوا لآراء وتحليلات هؤلاء الخطباء أنفسهم في «البي بي سي» وقرأوها في «الإندبندنت» و«الغارديان» و«اللوموند».