د. عبد العزيز المانع.. محقق التراث الفائز بجائزة الملك فيصل في الأدب

TT

احتفت خميسية العلامة حمد الجاسر يوم 5/ 3/ 2009 بالرياض بفوزه بالجائزة هذا العام، ليس لكونه ـ فحسب ـ أحد تلامذة العلامة، الملازم له أثناء حياته، واللصيق بتراثه، ولكن لأنه المحقق المثابر الذي استحق الترشيح للجائزة عن جدارةٍ وعصامية وتأهيل، وكان الاحتفاء ـ فـي عدد الحضور وعمق الدراسات المعدة للمناسبة ـ تعبيرا صادقا عن ابتهاج روّاد الخميسية (الأسبوعية) بفوز مدرسة الجاسر نفسها، وعُدّ تكريماً متجدداً لتراثه ونهجه العلمي في تحقيق التراث، ولموقعه العلمي في خدمة الثقافة العربية، ممثلا بأحد تلاميذه.

كان من عادة الجاسر (المتوفى عام 2000) أن يخصص ضُحى الخميس للالتقاء بمحبيه ومريديه والباحثين، فحرص تلاميذه من بعده ـ ومن بينهم المانع ـ على أن يستمر صالونه الأدبي هذا في موعده ومكانه في منزله (دارة العرب) وفق تقليد الجاسر، تُقدم فيه المحاضرات متنوعة الحقول، وترصد موضوعاتها في مجلة دورية.

فـي تلك الخميسية، تبارى فارسان من أركان الخميسية، وهما د. أحمد الضبيب (رئيس تحرير مجلة العرب الذي خلف الجاسر في تحريرها، مدير جامعة الملك سعود سابقا) والدكتور محمد الهدلق (أستاذ الأدب العربي في تلك الجامعة) تباريا في الحديث بورقتين عن جهود المانع في البحث والتحقيق، فكان مما ذكره د. الضبيب أن الاهتمام بكتب التراث قد بدأ في إقليم الحجاز في مطلع العهد السعودي منتصف العشرينات من القرن الماضي، وقد برز من رواده باحثون من أمثال رشدي ملحس وحمد الجاسر وأحمد عبد الغفور عطار ومحمد أحمد العقيلي وأسعد طرابزوني الذين التزموا خط المحققين الأوائل وصنيع الناشرين القدماء في تصحيح النصوص وتحريرها ومقابلة النسخ وإضافة بعض الهوامش.

وبعد أن بدأت البعثات إلى الجامعات الغربية تؤتي ثمارها في الستينات، ظهر جيل جديد من الأكاديميين الذين التزموا المنهاج الحديث في التحقيق، وكان منهم د. حسن الشاذلي فرهود و د. عبد العزيز الخويطر ود أحمد الضبيب ود. حسن باجوده، فلقد حملوا معهم المنهجية العلمية الصارمة، كما تعلموها في جامعات الغرب، وكان من أمثلة ما حُقق من كتب على أيدي هؤلاء المحدثين كتاب الإيضاح العضدي (1969) وتاريخ الشيخ أحمد المنقور (1970) وكتاب الأمثال للسدوسي (1970) وديوان عبد الله بن رواحة الأنصاري (1972).

وبعد أن شهدت الثمانينات تطوراً ملحوظاً في المؤسسات البحثية داخل الجامعات، وإنشاء مكتبات مركزية عنيت عناية خاصة بالمخطوطات وكتب التراث، ظهر جيل جديد نبغ في صناعة تحقيق التراث، كان من أبرز أمثلته شخصية هذا المقال (د. المانع) الذي بدأ رحلته مع البحث والتحقيق في أطروحة الدكتوراه من بريطانيا (1977) وهي بعنوان: «ابن باطيش الموصلي وكتابه: غاية الوسائل إلى معرفة الأوائل.. دراسة وتحقيق». وقد أخذ المانع بنصيحة المشرف البريطاني البروفسور جونستون على أطروحته، حيث نصحه بالانخراط ـ بمجرد عودته ـ في العمل البحثي، والعمل على نشر أول عمل (تحقيق) له حتى ولو لم يكن راضياً عنه، فكان أن استهل نشاطه البحثي المنشور عام 1982 بنشر كتاب (المنتخب من كتاب الشعراء) لأبي نعيم الأصبهاني (المتوفى عام 430 هـ) وتحقيق مؤلفه، ونشر في العام نفسه مع الدكتور وليد قصاب تحقيق كتاب (الأفضليات) لابن الصيرفي (المتوفى عام 525 هـ) ثم يسرد د. الضبيب قائمة النشاط التحقيقي الذي انكب د. المانع على إنجازه حتى هذا العام.

أما ورقة د. محمد الهدلق، فقد ركزت في بدايتها على السيرة الدراسية والعملية لشخصية المقال، التي بدأت منذ ولادته في مدينة شقراء (قاعدة إقليم الوشم غربي الرياض) مروراً على تخرجه (الأول في دفعته) في كلية اللغة العربية بالرياض، وانتهاءً بدراسة الدكتوراه في جامعة إكستر (1977)، وقد رصدت الورقتان جهوده في تحقيق التراث خلال العقود الثلاثة الماضية التي بلغت أكثر من خمسة عشر عملا، كان من أواخرها تحقيق كتابي (قشر الفسر) لأبي سهل الزوزني وكتاب الفسر الصغير لابن جني اللذين حققهما خلال العامين الماضيين.

ثم ألقى الضوء على بعض الجهود البحثية للدكتور المانع، وكان منها تحقيقه لصحة وفادة الشاعر الجاهلي الأعشى على المصطفى عليه الصلاة والسلام (والأعشى بالمناسبة من بلدة منفوحة التي تشكل جزءاً من الرياض حالياً) وهي الوفادة التي أفرزت قصيدته المشهورة:

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا

وعادك ما عاد السليم المسهّدا

كما كان منها تحقيقه لقصيدة (الوصية) للأعشى، التي مطلعها:

ذريني لك الويلات آت الغوانيا

متى كنت زرّاعاً لسوق السوانيا

فلقد بذل د. المانع جهدا تحقيقيا أصيلا أثبت فيه صحة نسبة القصيدتين للأعشى.

والدكتور المانع، الذي سيتسلم الجائزة اليوم، شخصية ودودة، لا تنفك روحه عن الدعابة، ولا تخلو جُعبته من أطرف الطُرف، رقيق المعشر، يتوارى عن المظاهر ولا يجيد التباهي في المحافل العامة، ولا الجلوس في الصفوف الأمامية، وهو يؤمن بأن الكتاب هو الإرث الحقيقي المُخلِّد لذكر المثقف متى ما صدر عن جهد أصيل، فثبتت صحة مقولته، وهو اليوم يتناول جائزة التميّز في البحث والتحقيق والتراث، والعمل الدءوب بين أرفف المكتبات عن عشق، وصدق د. الضبيب إذ يقول: «إن الاحتفاء بالمانع يُعدّ احتفاءً بحركة تحقيق التراث في السعودية، وبجهود المحققين الذين مارسوا هذه المهنة عن شوق ومحبة، وما د. المانع إلا واحدا منهم».

وبعد؛ فإن تحقيق التراث والتعامل مع المخطوطات عمل مضنٍ، فيه الكثير من العناء والتحمل، ومغالبة النفس على الصبر، وبدأ يحتل في العقود الثلاثة الماضية المقعد اللائق به فـي الجامعات العربية، اعترافاً وإنفاقاً ومكانة في المكتبات، ونصيباً من طروحات الدراسات العليا، ومن الجوائز الثقافية المرموقة.

* إعلامي وباحث سعودي