الفجر الكاذب لتجاوز النزعة الحزبية

TT

في قصيدة مارك ستراند الغريبة «النفق»، يتعذب الشاعر من رجل يئن بصورة مستمرة أمام منزله. ويطلب منه الراوي ـ بلا جدوى ـ أن يغادر المكان ويشير له بإيماءات بذيئة عبر النافذة ويدمر أثاث غرفة المعيشة «ليثبت أنه لا يملك شيئا ثمينا». وفي النهاية، يلجأ الكاتب إلى القبو ويحفر نفقا للهرب، فقط ليخرج وهو يئن أمام ذلك المنزل، حيث «يظل منتظرا على مدار أيام».

وعلى خلاف جميع توقعاتي، يشكل الرئيس أوباما هذا التأثير بالنسبة لي. فعندما كنت أتابع أوباما أثناء الانتخابات التمهيدية في نيوهامبشاير، رأيت مرشحا ـ على الرغم من عدم اتفاقي معه في الكثير من القضايا ـ يدافع عن المثالية ويتحدث بأسلوب منمق ضد آلة كلينتون المتشككة، وقد جلب وعيا دينيا بقضايا العدالة الاجتماعية، كما اهتم بتفهم حجج الآخرين وتكييفها، وقدم كذلك نقيضا طبيعيا لسياسة حرب الثقافات.

وبعد أسابيع فقط من توليه الحكم، تبدو هذه الصورة كصورة فوتوغرافية صفراء بالية موجودة في مؤخرة أحد الأدراج.

وتظهر الميزانية التي اقترحها أوباما رؤية وتحفظا وكياسة يتمتع بها رئيس لجنة جشع، يستخدم غطاء أزمة مصرفية لم تحل بعد للدفع من أجل تنفيذ قائمة موسعة بالأمنيات الليبرالية قبل أن يلاحظ أي شخص تكلفتها وتعقيداتها.

وقد أصبح التعهد بـ«المسؤولية» توسعة هائلة لحجم الدين، وإلقاء اللوم باستمرار على الآخرين، وتطور غير ناضج للجدال مع رموز وسائل الإعلام المحافظة من أجل استقطاب جمهور الناخبين لتأييده. وأصبح التعهد بـ«النزاهة» و«التضحية» ضمانا خادعا لجلب منافع عامة تبدو بلا حدود على حساب قلة قليلة. وأصبح التعهد بالتعاون «بين الحزبين» محاولة لدفع الجمهوريين حتى يصلوا إلى درجة من الغضب والمذلة.

لا يوجد في هذا شيء جديد أو استثنائي، وهذا هو المهم. إنها على وجه التحديد الطريقة التي كانت تحدث بها الأشياء على الدوام.

وكان أسوأ هذه الأمور هو قرار أوباما المتعلق بأبحاث الخلايا الجذعية؛ لأنه شيء لم يحدث مطلقا من قبل. ويوضح يوفال ليفين من مركز الأخلاقيات والسياسة العامة بقوله: «يتجاهل أوباما عن عمد التعقيد الأخلاقي للموضوع. ويقول إنه يتفهم آراء معارضيه، ولكنه لا يخاطبهم أو يجيب عليهم. ويبدو أنه يتبنى الافتراض بأن النقاش حول أبحاث الخلايا الجذعية يمثل اختيارا بين العلم والجهل، بينما يتطلب النقاش في الحقيقة نوعا من وزن المنافع المتنافسة التي ننتخب الرؤساء من أجل المقارنة بينها».

ويتميز أسلوب أوباما بأنه مبسط أخلاقيا، وهو نوع من الحجج التي يكون الرد عليها بإيماءة رأس في حفل كوكتيل أنيق بدلا من الخوض في خلاف جاد متعلق بها.

ومن مأساة هذه الخطوات المستقطبة أنها تضفي غموضا على أجندة أوباما التي تستحق الثناء والدعم، وتجعل هناك أهمية أخلاقية واقتصادية مثالية في توسيع برامج تغذية الأطفال، مما يضمن أن الأطفال في الأسر منخفضة الدخل يحصلون على وجبات الإفطار والغذاء في فترة من الضغوط الاقتصادية. وتزداد هذه الأهمية أيضا في مد مساعدات الأسر منخفضة الدخل على سداد قيمة الإيجار؛ وفي التمويل الكامل لقانون الفرصة الثانية، الذي يساعد السجناء السابقين على الاندماج من جديد في المجتمع؛ وفي زيادة تمويل علاج مرض الإيدز، وخاصة في المجتمعات الأميركية من أصول أفريقية ولاتينية؛ وفي جعل الإعفاء الضريبي للطفل من الممكن استرداده جزئيا على الأقل؛ وفي الحد من الدعم المقدم للمزارع والذي يشوه أسواق الغذاء العالمي ويضر الفقراء؛ وفي تقديم دعم إضافي لبنوك الغذاء المتعثرة؛ وفي توفير إمكانية إعادة أموال المدخرين، مما يشجع الأميركيين ذوي الدخول المنخفضة على تكوين الأصول؛ وفي الوفاء بالتزامات إنقاذ الحياة، مما يعزز من الصحة والتنمية العالمية.

يجب أن تكون هذه هي القضايا ذات الأساس المشترك في سياستنا، وأن تكون الملاذ في ميدان المعركة الآيديولوجية ومصادر الإجماع الحقيقي في الرأي. ولكن تم تجاهل هذه القضايا أثناء لعبة القتل الآيديولوجية التي شجع عليها أوباما، أو الصراع الحزبي الذي جعل الجمهوريين من أعضاء الكونغرس أقل احتمالا لتأييد أفضل مبادراته. وقد أثنى الخبير الاقتصادي روبرت رايش على ميزانية أوباما في مجملها قائلا إنها تدق «المسمار الأخير في نعش سياسات ريغان الاقتصادية». ويهاجم الجمهوريون الميزانية للسبب ذاته. وكلاهما على صواب في تحليله. ولا يعد شعور الليبراليين بالسعادة وإصابة المحافظين بالهياج للسبب ذاته إشارة إلى تجاوز النزعة الحزبية. ولكنها إشارة إلى استغلال خلافاتنا وتعميقها. ويستمتع البعض بهذا النوع من السياسة، ولكن الفجر الكاذب الذي يشير إلى تجاوز النزعة الحزبية ليس سببا للاحتفال. وتخلق الحرب الآيديولوجية جوا يسود فيه الغاضبون، ويمكن أن يتسبب ذلك في إثارة الغضب داخل كل منا. ولكن في الحكومة، رأيت نقادا يئنون باستمرار أمام النافذة. والآن عليّ أن أحفر نفقي وأنضم إليهم. وهذا ليس المكان الذي أريد أن أكون فيه، أو ليس المكان الذي كان من الممكن للسياسة الأميركية أن تكون فيه.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»