انتخابات الجزائر: التعليم هو الفائز الأول

TT

أن تصل إلى الجزائر بعد غياب طويل عنها استمر لسنوات، لن يكون بالتأكيد أمرا عاديا. في هذه السنوات عاشت الجزائر أمرا صعبا. حصل خلاف مع فريق من «لإسلاميين»، ونشأ التطرف والإرهاب، وأخذ الإرهاب على عاتقه أن يدمر أجهزة الدولة حتى يستطيع فرض مطالبه. وهكذا كانت معسكرات الجيش هدفا للإرهاب والعنف وبنفس المستوى الذي كانت فيه الجامعات والمدارس هدفا مماثلا.

اليوم، ورغم مرارات تلك الفترة، فترة السنوات العشر السوداء، من 1990 ـ 1999، يميل المواطن الجزائري إلى اعتبار تلك الفترة جزءا من الذكرى. تلمس ذلك لدى المواطن العادي ولدى المواطن المسؤول. كان الوضع «كذا»، ولكننا الآن نعبر إلى طور جديد. هذا ما يقوله المواطن المنغمر في أداء عمله اليومي، وهذا ما يقوله المسؤول المنشغل بالتخطيط لتطويرات المستقبل. وتلمس في الحالتين أنك أمام جزائر جديدة، جزائر تتطور بسرعة، جزائر تسير نحو امتلاك القوة، قوة العلم، قوة الإدارة والتنظيم. أما النوع الآخر من القوة، قوة العنف من أي جهة جاء، فهو يخلي مكانه لـ«ميثاق السلم والمصالحة الوطنية»، والتي يبدو أنها قطعت شوطا فعالا. لم تعد مجرد شعار، وأصبحت عملية اجتماعية وسياسية وثقافية ثابتة.

يقف في مقدمة هذا المشهد رجل يدعى (عبد العزيز بوتفليقه). ليس بصفته فردا، بل بصفته رمزا لأشياء كثيرة، تتفال وتلتقي في لحظة تاريخية محددة. بوتفليقه يترشح لرئاسة الجمهورية للمرة الثالثة. بوتفليقه هو الرجل الذي ارتبط اسمه بدعوة المصالحة الوطنية التي أنهت العنف والإرهاب في الجزائر، وأقنعت العديد من حملة السلاح بالنزول من الجبل والاندماج مجددا في حياة المجتمع العادية. وبوتفليقه هو الرجل القادم من تاريخ الثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي إلى طموح التطور والتقدم، رابطا بذلك بين الماضي والحاضر، وبرمزية أبرز وأوضح مما لدى زعماء جزائريين آخرين. وبوتفليقه هو المسؤول الذي أهلته مهماته كوزير للخارجية، أو كرئيس للجمعية العامة للأمم المتحدة، أن لا يرتبط اسمه، لا من قريب ولا من بعيد، بأي إشكال جزائري داخلي، لا بالفساد مثلا، ولا بأخطاء تطبيق البرامج الاقتصادية، ولا بالقبضة القوية في تسيير شؤون الحياة والأمن. إنه ابن الثورة فحسب، ارتبط بها يوم كان عمره 16 عاما، وأصبح وزير خارجيتها يوم كان عمره 26 عاما، وعاد إلى بلده وثورته التي أنجزت الاستقلال، بعد أن تجاوز الستين من العمر. اختاروه ليكون رجل الإنقاذ، وهو اختار أن لا يخطو على هذا الطريق الصعب، إلا على قاعدة الوفاق والمصالحة والعفو والتعاون. وحين قبل منهجه هذا، تمت صياغة المنهج سياسيا، ثم تمت صياغته إداريا وقانونيا، ثم أصبح رئيسا للجمهورية، وأخذ يشرف بنفسه على تطبيق مخططه، حيث الأمن أولا، أمن المجتمع وأمن الفرد، وحيث لا يمكن إنجاز أي شيء طموح إلا بعد أن يتوفر الأمن.

ويبدو أن الأمن كان كلمة سحرية في المجتمع الجزائري، انتشرت بسرعة وفي كل الأوساط، وأيدها الجميع، وتفاعل معها الجميع. وحين بدأ على قاعدتها تنفيذ مشاريع البناء، أصبح التلاحم بين الأمن والبناء، المدماك القوي الذي يملكه بوتفليقه، والذي يندفع حاملا لواءه في أعقد التجمعات الجزائرية، وبخاصة تلك التي شهدت العنف ورعته ومارسته.

وإذا كان الأمن هو الكلمة السحرية التي أصر عليها بوتفليقه، وانطلق منها في نسج العلاقة بين الحاكم الجزائري والمواطن الجزائري، فإن البناء بالنسبة إليه اتخذ أولوية أساسية هي: التعليم، حتى ليمكن الآن أن نتحدث عن بوتفليقه باعتباره رجل العلم والتعليم في الجزائر. ونحن هنا لا نلقي أوصافا تمجيدية على بوتفليقه، بل نصور أمرا واقعا وملموسا، أمرا تدعمه الأرقام والمعلومات، فقد حاور بوتفليقه، وناقش، ثم قرر مع غيره من المسؤولين الجزائريين، أن المجتمع الجزائري، الذي ابتلي بالعنف والإرهاب عشر سنوات كاملة، فقد المواطن المؤهل للعمل، سواء في الإدارة، أو في المهنة، أو في الأرض. والبند الأول بعد الأمن، من أجل البدء بالبناء والتطوير، هو إعادة تأهيل المواطن لكي يكون قادرا على العمل، مجرد العمل، في أية مهنة عادية أو متوسطة أو معقدة. كانت المهمة كبيرة وصعبة، ولكن كان لا بد من البداية، وكان لا بد أن تكون البداية قوية، ومن خلال التعليم بالذات.

في خلفية هذا التوجه، كان السؤال: لماذا انجرف الشباب نحو العنف والإرهاب. ووجد من استنتج وقال إن السبب يكمن في البطالة. والسبب يكمن في أن الشباب غير مؤهل لعمل منتج، وهو لذلك لا يرى أملا في المستقبل، ولو أمكن أن نوجد فرص العمل أمام هذا الشباب، وأن نؤهله لكي يكون كفئا في عمله، لأوجدنا الأساس الموضوعي الذي يقف حاجزا أمام الشباب وأمام الارتباط بدعوات العنف.

وفي خلفية هذا التوجه أيضا، بدأ التركيز على التعليم المهني.

التعليم المهني موجود في كل البلاد العربية، ولكنه في الجزائر شيء آخر. التعليم المهني في البلاد العربية هو مجرد بند أو فرع صغير في التعليم العام، التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي والجامعي، ولكن التعليم المهني في الجزائر مهمة قائمة بذاتها، مهمة توازي التعليم العام أو التعليم الثانوي، مهمة تصرف عليها الدولة أموالا طائلة، أموالا طائلة بالفعل، بحيث إن كل مدرسة مهنية حول تخصص ما، هي عبارة عن مصنع متكامل، يدرس فيه الطالب دراسة عملية تطبيقية، وكأنه يعيش في المصنع قبل أن يذهب إليه. تتوفر داخل هذا المصنع كل الآلات اللازمة لتلك الصناعة، فيدرس الطالب ويتعلم عليها، وحين يخرج من المدرسة، ويذهب إلى المصنع، يجد هناك الآلة نفسها، فيواصل العمل عليها كأمر اعتيادي وروتيني. وبسبب هذا النوع من الخطة التعليمية، فإن المصانع والشركات، تتعاقد مع الطلاب المهنيين قبل تخرجهم. وبسبب هذا النوع من الخطة التعليمية، أصبح الطلاب يتراكضون ويتدافعون للالتحاق بهذا النوع من التعليم، كاسرين بذلك القاعدة الاجتماعية التي تنظر إلى هذا النوع من العمل، وكأنه عمل من الدرجة الثانية.

عناية بوتفليقه بالتعليم المهني، تسعى إلى معالجة البطالة، وتسعى إلى توفير اليد العاملة الجزائرية المؤهلة، لتطوير العمل في السوق، ولدى الشركات. وتسعى إلى توفير اليد العاملة الجزائرية التي تستطيع أن تنفذ مشاريع التنمية التي تقررها الدولة، وهي في هذه السنوات كثيرة ومكثفة.

وفي إطار هذا النوع من العمل، يترشح بوتفليقه لفترة رئاسية ثالثة. يترشح متنافسا مع آخرين، ولكن احتمال فوزه هو الأقوى، بسبب تراثه، وبسبب رؤيته للأمن والمصالحة، وبسبب إدراكه لأهمية التعليم في الدمج بين المواطن والمجتمع.

وقد لا تكون الجزائر وحيدة في إدراك هذا النهج وأهميته، ولكنها تمكنت من التقدم خطوات ملموسة على طريق هذا النهج. وهي مؤهلة، بسبب ذلك، أن تصبح دولة قوية، بالمعنى الحقيقي للكلمة.