الطعام.. وخير الكلام

TT

اعتادت معظم الشعوب على الاستشهاد والاقتباس من النصوص المقدسة عندها. وكان الإغريق أول من انتبه لذلك فسموه بالهايبربولا. كذا فعل الأوربيون فسمعناهم يلتقطون شتى العبارات والكلمات من الكتاب المقدس ويستعملونها لأغراضهم السياسية والاجتماعية والأدبية. ولكننا فقناهم جميعا في ذلك بسبب كثرة حفظنا للنصوص القرآنية وتعلقنا بكل ما جاء في المصحف الشريف. كان لنا جار مسيحي، الدكتور عبد الله القصير، دفع بولديه خالد وزهير لوالدي ليعلمهما ويحفظهما القرآن. قال لا تكتمل ثقافة المواطن العربي، مسلما كان أو يهوديا أو مسيحيا، بدون ذلك.

هكذا اعتدنا في كل المناسبات والملابسات على الاستشهاد بشيء من المصحف الشريف، نقطع به دابر الشك والجدال والخصام.

الأدب العربي مليء بالطرائف والحكايات على هذا السياق. من أطرفها ما أورده الأبشيهي في كتابه «المستطرف في كل فن مستظرف» عن المتكلمة بالقرآن. التقى بها عبد الله بن مبارك في طريقه لحج بيت الله الحرام. وكانت امرأة عجوزا ارتدت درعا وخمارا من الصوف وضلت طريقها في البادية. راح يحاورها ويسألها، وبالطبع سألها عن الطعام، موضوعنا ورابط كلامنا، سألها: أنت منذ كم في هذا الموضع؟ فقالت «ثلاث ليال سويا». فقال: ما أرى معك طعاما؟ فأجابت: «هو يطعمني ويسقين». عاد فسألها: وبأي شيء تتوضئين؟ قالت: «فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا». فقال: إن معي طعاما، فهل لك في الأكل؟ قالت: «ثم أتموا الصيام إلى الليل». فقال: ليس هذا بشهر رمضان. فأجابت: «ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم». قال: لقد أبيح لنا الإفطار في السفر. فقالت: «وإن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون». قال: فلم لا تكلميني بمثل ما أكلمك؟ فأجابت: «ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد». قال: فمن أي الناس أنت؟ فأجابت: «ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا».

وإلى آخر هذا الحوار العجيب والطويل.

ولكن غيرها من الطفيليين الأكولين استخرجوا من الذكر الحكيم ما يطعمهم. ذهب أحدهم لزيارة رجل حاول صرفه عن الأكل بإشغاله بأمور الدين والآخرة، فسأله ما علمك بالقرآن وأي سورة تعجبك منه؟ فقال «المائدة»، عاد فسأله: وأي آية منه؟ قال: «ذرهم يأكلوا ويتمتعوا». قال: ثم ماذا؟ قال «آتنا غداءنا». سأله: ثم ماذا؟ قال: «ادخلوها بسلام آمنين». سأله، ثم ماذا؟ قال: «وما هم عنها بمخرجين».

حاول مضيف آخر أن يشغل ضيفه عن الأكل وقد أمعن به دون رحمة، فسأله أن يحكي له قصة يوسف، وهي أطول ما في القرآن من القصص. فاختصرها بأربع كلمات: «راجل ضيع ولده ولقاه»!

وهي لعمري من أبلغ ما قيل، طالما قالوا إن البلاغة بلوغ المعنى بأقل الكلام. وواصل الرجل ضرب الرز واللحم والمرق غير هائب.

www.kishtainiat.blogspot.com