اسمي ورسمي

TT

تعلمت مؤخرا أن اسمي ورسمي وطن، وأن العلاقة مع الوطن علاقة مركبة، تربطني بتيار فكري يعترف بقوة الأسماء وبتأثيرها على التكوين النفسي للأشخاص.

في الطفولة كان أبي يدندن بأغنية شهيرة لعبد الوهاب، وهي أغنية «حب الوطن فرض علي، أفديه بروحي وعينيه». وقد تأثرت بالأغنية في الطفولة، بحيث نشأت لدي قناعة بأن الانتماء إلى وطن هو قدر لا يمكن تغييره.

راودتني تلك الأفكار وأنا أقرأ كتابا للدكتورة ميرفت عبد الناصر، بعنوان معنى الوطن. مادة البحث التي اختارتها المؤلفة ترتبط بإبداعات في الفن والموسيقي والتاريخ والأدب. فالكتاب يتناول 12 عملا، يمثل كل منها مفهوما مختلفا لعلاقة الفرد بالوطن، داخل إطار الزمن ومتغيرات الجغرافيا والتاريخ.

من اخناتون إلى ابن الرومي، ومن كفافيس إلى مسرحيات توم ستوبارد، تتجول بحثا عن معنى، ولعل أطرف محطة هي تناولها لرواية المريض الإنجليزي لمايكل اونداتجي.

حين يحترق الجلد تختفي كل المعالم الخارجية، ولا يتبقى للبطل سوى ذاكرته. وكأن المؤلف قال إنه لو اختفت كل معالم الهوية التي تميزك من الخارج، فإنك تحتفظ باسمك، وهو جزء من ذاكرتك، التي هي وطن لا يفارقك.

وتشير إلي أهمية الجلد في تشكيل الهوية، لأن الجلد يقوم بوظيفة الاستقبال الحسي للمؤثرات الخارجية. ومن ثم فهو مرتبط بحاسة اللمس، أولى الحواس البشرية التي ترافق السمع والبصر. وهو النسيج الذي يرسم الملامح ويحدد درجة القبح والجمال والشباب والشيخوخة والصحة والمرض.

جلدك يفصل بين عالمك الداخلي وعالمك الخارجي، ولذلك يوظف للتعبير عن المشاعر الإنسانية في كل لغات العالم. فيقال مثلا: إن فلانا هرب بجلده، للتعبير عن نجاة من خطر مؤكد. فالجلد هو الغلاف الذي تطل به على العالم الخارجي، وهو بوابة الإحساس التي تفضي إلى خزائن الذاكرة، ومستودع المشاعر ومحركات السلوك.

وتقول المؤلفة في تقديمها للكتاب: إن جغرافية الوطن أصبحت ضحية لمتغيرات اقتصادية ومعلوماتية في زمن العولمة، بحيث أصبح تعريف الوطن أكثر تعقيدا. وقد فرض هذا الواقع على الناس اللهاث نحو تعريف يقيني، من خلال تبني ايديولوجيات معينة، أو عقيدة معينة. وهو أمر متوقع في ظل المحاولات لإلغاء التراكم التاريخي للأوطان عبر العصور المختلفة.

قراءة هذا الكتاب شكلت لي تحديا فكريا كبيرا، ربما لأنني لا أمتلك أدوات التحليل الإكلينيكي، الذي تمتلكه مؤلفته. ولذلك وعلى الرغم من تعاطفي مع دوافعها لطرح الأسئلة المحيرة عن مفهوم الوطن، تذكرت طرفة صغيرة رواها لي صديق له ابنة في الثالثة من عمرها. هذه الطفلة شاهدت نفسها في المرآة لأول مرة. فصدرت عنها صيحة أشبه بصيحة ارشميدس، حين قال: وجدتها. فقد نظرت نادين إلى نفسها نظرة طويلة متفحصة، ثم صاحت: نادين بنت.

أوحت لنادين ملامح وجهها وشعرها وواقع أنها ترتدي ملابس ترتديها الفتيات، بأنها بنت. وبذلك اكتشفت الدعامتين الأساسيتين في انتمائها إلى وطن: اسمها ومظهرها المؤكد لكونها أنثى. وسوف تقضي نادين الشطر الأعظم من حياتها في الذود عن هاتين الدعامتين.

فما هو الاكتشاف اليقيني الذي يدفعني ويدفعك إلى التعبير عن اكتشاف مذهل تنطق به، حين تقول أنا مصري، أو أنا سعودي، أو فلسطيني، أو إنجليزي أو أميركي؟

رحلة اليقين طويلة في ظل متغيرات جعلت فكرة الوطن فكرة جدلية، في ظل ثقافة تشريع السيادة ثقافيا وعرقيا.