في جناح همنغواي.. جاف والهو بالرحيل

TT

دام الحب الأول طويلا ومريرا. طبعا من جانب واحد. وفي زمن شبابنا كانت الهزيمة قاسية وصعب أن تنسى. ورحت أوزع الحزن على القصائد وأهرب من الحنين بالسفر إلى أماكن بعيدة. وقد أبلغني الزميل العزيز سمير صنبر أنه لا يزال يحفظ في حقيبته قطعة كتبتها تلك الأيام بعنوان «جاف والهو بالرحيل».

الزمن هو المعلم الأدهى، فمهما طالت سنوات الآهات فقد تقبلت أخيرا أن ثمة شيئا جميلا قد اقتلع وجفت زهوره. لكن الإقلاع عن الحلم الآخر، أي أن أصبح ذات يوم ارنست همنغواي، لا أقل، فقد استغرق المزيد من الوقت. ثم مع الزمن تساهلت مع نفسي: ليس من الضروري أن تصبح همنغواي لكن حاول شيئا آخر. إنما حاول.

ظلت الرواية فتنتي والصحافة مهنتي. والصحافة رواية النهار وروزنامة العمر. قليلون يدخلون مغرياتها وينجحون في العثور على باب الخروج. الرواية عمل صعب، واسع، بطيء، متأن، عميق، رقراق، داخلي، وجداني، والصحافة موعد سريع ما بين الحدث والمطبعة. موعد الصدور لا ينتظر أحدا ولا يأخذ في الاعتبار لحظة تأمل عند باب الحديقة.

هكذا علمتني السنوات، ولو متأخرا كالمعتاد، أن أتخلى عن حلم المستر همنغواي ككاتب وأكتفي بما لي في أدبه كقارئ. وفي أي حال فإن الموجات الأدبية لا تطيق الانتظار. فالمستر همنغواي الذي كنت أحلم أن أكونه في الستينات، زال وهجه وتراجعت مدرسته، عندما بدأنا نعرف في أوائل السبعينات سحرا جديدا في الرواية والشعر آتيا من غابات أميركا اللاتينية وأدغالها وأساطيرها الحزينة.

بورخيس، باث، يوسا، ماركيز، موجات موجات من الأرجنتينيين والكوبيين والبيروفيين والمكسيكيين والتشيليين. وصدف أنني في هذه المرحلة سافرت إلى أميركا وكندا، حيث كانت ترجمات اللاتينيين تكتسح المكتبات. ما أجمل تلك المتع. ويؤسفني أن أعترف، بأنني منذ ذلك الوقت توقفت عن العودة إلى قراءة المستر همنغواي. فقد بدا لي أقرب إلى مراهقتي العاطفية والثقافية معا. وإذ سافرت في بعض خطاه، في أفريقيا وإسبانيا، اكتشفت أنه أحب أشياء نفرت نفسي منها، ولم يبق من شيء بين المستر همنغواي وبيني، سوى مرحلة باريس.

إلى اللقاء