حديث جاد عن الضحك

TT

رغم أن المشهد العربي برمته يندرج ضمن ما يسمى بـ«الكوميديا السوداء»، من السياسة إلى الاجتماع إلى الثقافة، إلا أن ما يلفت نظري ويجعلني أخاف على مستقبل العرب هو أنهم قوم لا يضحكون ولو حتى من باب السخرية. العرب لا يضحكون بتلقائية لا على أحوالهم ولا حتى على أحوال غيرهم. سبعة وأربعون عاما من الحياة والتنقل بين البلدان العربية، استوقفتني فيها أشياء كثيرة، لكن كان أهمها هو لماذا لا يعرف العرب الضحك العفوي؟ في معظم بلدان العرب التي زرتها يتهيأ الناس للضحك كما يتهيأون للعشاء كما لو كانوا على موعد رسمي مع الضحك. يعلنون أنهم سيضحكون، إذ تجد نفسك في وسط جلسة فيعلن أحد الجالسين بأنه سيروي نكتة، حينها يستعد الجميع للضحك، فتمط الشفاه وتتدرب على الضحك قبل إلقاء أو انتهاء النكتة، حتى من سمع النكتة ذاتها عشرات المرات يضحك، أنا أضحك معهم وأحيانا ليس على النكتة نفسها، وإنما لعدوى الضحك التي تحدث في مثل هذه المناسبات.. وما أجمل وجه العربي وهو يضحك.

شيء ما في ثقافتنا ربط الضحك بعدم الاحترام، وبما أن العربي في حالة بحث دائم عمن يحترمه ويعترف به في الداخل والخارج، تجده مبالغا في إضفاء علامات العبوس على وجهه. تلك العلامات ارتبطت في الذهنية الجمعية لدينا بالوقار والاحترام، فالوجه الضاحك ليس جادا أو وقورا، العبوس هو مرادف الوقار في قاموسنا الاجتماعي. علاقة غريبة صنعناها بين الضحك والهزل، بين الفرح والخفة وبين الوقار والعبوس، وهي بالتأكيد علاقات ليست طبيعية. إنها من صنعنا.

تاريخ الضحك مرتبط بعلاقات اجتماعية مختلفة. في العالم البدائي الأول، كان إظهار الأسنان هو تعبير عن الغضب وعن الرغبة في الافتراس في حالة الإنسان أو الحيوان عندما يكشر عن أنيابه. ومع تطور سلوك الإنسان الاجتماعي، أصبح إظهار الأسنان يعطي رسالة عكس رسالته الأولى تماما، فبدلا من كونه تعبير غضب وكراهية تحول إلى تعبير بشاشة وسلام ومحبة. التغييرات نفسها حدثت على بعض حركات أعضاء أخرى من جسد الإنسان، فمد اليد مثلا كان في البدء رمزا للعدوانية حتى تحول عبر السنين إلى بادرة جسدية توحي بالسلام. في المجتمع الغربي، وأيضا عندنا في الشرق، كانت حركة اليد تثير القلق لأنها توحي بأن الرجل قد يستل سلاحه سريعا من غمده ويهجم على من أمامه، لكن تطورت الأمور حتى أصبحت اليد المفتوحة الممدودة إلى الآخر بالسلام إثباتا على أن اليد خالية من السلاح.

الأرستقراطية الغربية، والإنجليزية تحديدا، لا تمد اليد بالسلام، ليس استعلاء وإنما هي رسالة تعني أن النبلاء لا يحتاجون إلى تقديم أيديهم الخالية من السلاح كدليل على السلام، لأنه أمر طبيعي بألا يكون النبيل مصدر خطر غير مبرر للآخرين. لذا ما زالت بعض الأرستقراطية الإنجليزية إلى يومنا هذا، تعتبر أن مد اليد بالسلام هو علامة من علامات انتماء الرجل إلى الطبقات الاجتماعية الأقل شأنا.

ما حدث لكشف الأسنان ومد اليد وانقلاب العلامات من الشيء إلى نقيضه، هو أمر ينطبق أيضا على السلوك الاجتماعي الغربي الحديث على مائدة الطعام. فالأساس في اختراع السكين هو إيجاد أداة تسهل على الإنسان الحصول على طعامه أو مواجهة من يريد أن يغتصب هذا الطعام، وبتطور الزمن أصبح وجود السكين على المائدة من دون استخدامها لاعتداء الإنسان على أخيه الإنسان من أجل الحصول على الطعام، هو علامة من علامات الحضارة وأيضا من علامات الخير، أي أن الطعام كثير ورغم أن الناس مسلحون بالسكاكين فإنهم يستخدمونها لقطع الطعام لا لتقطيع بعضهم البعض. ينظر بعض الغربيين إلى الأكل بالأيدي عند العرب على أنه علامة تخلف، وإذا ما سألت أحدهم لماذا يعتبر الأكل بالأيدي شيئا غير مقبول اجتماعيا، فإنه قد يعزو السبب إلى مسألة النظافة والصحة ونقل الميكروبات إلى آخره، غير مدرك بأن الأمر مرتبط لديه بمنظوره التاريخي الذي ذكرته.

الضحك مثله مثل السكين ومد الأيدي علامة اجتماعية تكشف عن طرق تبنتها المجتمعات لإرسال رسائل تنم عن علاقات دفينة لها تاريخ اجتماعي طويل. من ملاحظاتي الأولية حول الضحك في العالم العربي أيضا، هو أننا كثيرا ما نضحك للتغطية عن توتر في سياقات لا نعرفها كأن ندخل في مكان لا نعرفه، أو عندما نلتقي بأشخاص لا نعرفهم، فنبالغ في إثبات حسن النية أو لنرسل علامة من علامات الخضوع لمن دخلنا في عالمهم بإطلاق ضحكات أو ابتسامات، أو أن نفعل العكس تماما فنبالغ في الوقار والعبوس، وفي الحالتين هناك مبالغة. في الأولى يكون المكنون العميق لرسالتنا أننا في حالة هزل و يجب ألا نأخذ بعضنا مأخذ الجد. نضحك أو نحاول أن نضحك ونبرز ما لدينا من أدوات القدرة على الضحك أو على الإضحاك، لكنه ضحك مصطنع لا تلقائية فيه أو عفوية، وبالتأكيد هو ليس تعبيرا عن سعادة داخلية غامرة من جراء ما نحن فيه. أو نبالغ في الجدية كتعبير عن الاحترام والتزام الأدب.

المجتمعات الصحية تسخر من نفسها وتضحك على مواقفها الهزلية من دون مبالغة ومن دون استعراض أو تكلف، يشترك الجميع في الضحك، لا فرق بين الكبير والصغير، أو بين المدير والغفير. في المجتمعات العفوية تتطور الكوميديا إلى «ما بعد» المباشرة في محاولات الإضحاك سواء في الحياة العامة للأفراد العاديين أو في الفن والأدب، بينما عندنا ما زالت الكوميديا هي كوميديا الموقف أو «السلاب ستيك» خصوصا في مسارحنا وأفلامنا، كأن يسقط فرد على الأرض بطريقة غير متوقعة أو يلخبط الفرد في نطق الأسماء كما في سرحان عبد الحصير في مسرحية «شاهد ماشافش حاجة». الكوميديا الفجة هي ما يضحكنا لأننا لم نطور كوميديا أرقى من ذلك. السبب في كل هذا هو شح الضحك التلقائي في حياتنا العادية، لذا تضحكنا أمور لا تضحك كثيرا مجتمعات تعاملت مع الضحك على أنه جزء طبيعي ومن سياق الحياة نفسها.

لدينا أحداث عربية حزينة جدا، ولكن تعاملنا معها يدعو إلى الضحك. قممنا العربية مثلا تكون أحيانا من النوع «اللي يفطس من الضحك». نص فكاهي إن لم نرد أن نصفه بالهزلي بامتياز، فقط علينا أن نتذكر مشهد الصحون المتطايرة في قمة غزو الكويت 1990 في القاهرة، التي وصلت فيها الكوميديا السوداء إلى سقفها. أكتب هذا المقال قبل انعقاد القمة، أعرف أن هذا المقال ينتمي إلى سوسيولوجيا الكتابة، ولكنني أردته لأنني أرى بأن غياب الضحك التلقائي وغياب روح السخرية من النفس هما مؤشران اجتماعيان مهمان لفتح حوار حولهما، فهل آن الأوان لنتحدث «بجد» عن الضحك؟