من هم الصامتون ولماذا؟!

TT

كم من الشهادات والبراهين يجب أن تتوفر قبل أن تقر محكمة الجزاء الدولية أن القوات الإسرائيلية قد ارتكبت جرائم حرب في غزة، بما في ذلك قتل المدنيين من الأطفال والأمهات بالفوسفور الأبيض، وبذخائر أخرى محرمة، وباستخدام الأطفال دروعا بشرية، وبتدمير المباني والممتلكات عن قصد وسابق إصرار. وكم من هذه الشهادات والدلائل يجب أن تتوفر قبل أن يساق مجرمو الحرب الإسرائيليين إلى المحكمة تلك، وقبل أن توضع أسماؤهم في جميع البلدان من أجل إلقاء القبض عليهم. إذا كان المبعوث الخاص للأمم المتحدة المكلف بالتحقيق بشأن حقوق الإنسان في غزة، ريتشارد فولك، قد رفع تقريره إلى مجلس حقوق الإنسان في جنيف مؤكدا أن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب بأفظع أشكالها، وقد دعا إلى تشكيل لجنة مستقلة من الخبراء للتحقيق بجرائم الحرب، التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في غزة، التي تضمنت قصف المدارس والمساجد والمشافي والمنازل، وقتل الأمهات والأطفال العزل مستخدمين الفوسفور الأبيض. وقد أكدت هذا الاستنتاج منظمة «هيومان رايتس ووتش»، التي أكدت إطلاق الإسرائيليين قذائف الفوسفور الأبيض بصورة منهجية على المناطق ذات الكثافة السكانية العالية في القطاع، مستشهدة بقذائف الفوسفور الأبيض، التي لم تنفجر كدليل على ارتكاب جرائم حرب، ونتيجة لذلك أصيب وقتل أكثر من خمسة آلاف من المدنيين، منوهة أن الفوسفور الأبيض استخدم حتى عندما لم تكن القوات الإسرائيلية في المنطقة. كل هذه الأوصاف تتضمن تحسينات لفظية على حقيقة واحدة، هي أن القوات الإسرائيلية قد شنت حرب إبادة ضد الفلسطينيين، وكما اعترف الجنود الإسرائيليون أنفسهم، فإن الأوامر التي أعطيت إليهم أوحت لهم بأن «حياة الفلسطيني أقل بكثير من حياة الإسرائيلي». وطبعا هذه العبارة هي وصف تجميلي لكلمة «العنصرية»، التي يمارسها الإسرائيليون ضد الفلسطينيين منذ ستين عاما ونيف. وبعد كل الشهادات التي أدلى بها الجنود الإسرائيليون، الذين كانوا في الميدان، عن القتل المتعمد للأمهات والأطفال في غزة، وأحدهم يلبس قميصا وعليه صورة امرأة فلسطينية حامل، كتب تحتها «طلقة واحدة تقتل اثنين»، بعد كل هذا يتهم الناطق باسم الخارجية الأمريكية ريتشارد فولك، مبعوث الأمم المتحدة للتدقيق بحقوق الإنسان في غزة، يتهمه بأنه «منحاز»، بينما تتصدر الشهادات والتحليلات صفحات كبرى الصحف الإسرائيلية «هآرتز» و«يديعوت أحرنوت»، ويتساءل المحللون الإسرائيليون، «هل يمكن لإسرائيل أن تتجاهل قصص وشهادات جنودها من غزة» (هآرتز 19/3/2009)، في الوقت الذي تشكك فيه الـ«واشنطن بوست» بهذه الشهادات والتحقيقات! والسؤال هو، هل أصبحت وزارة الخارجية الأمريكية وجريدة الـ«واشنطن بوست» أكثر احتضانا للجرائم التي ارتكبها الجنود الإسرائيليون من السلطات الإسرائيلية نفسها، التي لم تنكر وقوع هذه الجرائم، والإعلام الإسرائيلي نفسه؟ وبأي معيار تحتفظ وزارة الخارجية الأمريكية بتصنيف لحماس وحزب الله بأنها منظمات إرهابية، بينما لا تطلق هذا التوصيف على من قتل أكثر من 1417 فلسطينيا مدنيا بالقنابل والأسلحة المحرمة دوليا، وها هو العالم يكتشف، ليس للمرة الأولى طبعا، أن القوات الإسرائيلية مارست أبشع أنواع القتل بدم بارد، تنفيذا للأوامر المعطاة لها بحرب دينية، أو حرب ضد بشر يعتبرون في إسرائيل أقل من مستوى البشر، وتدمير أراضيهم ومبانيهم ومدراسهم ومشافيهم، واستهداف حتى سيارات وطواقم الإسعاف منهم، وبعد كل هذا وذاك ما زال البعض يستخدم صفة «إدعاءات» ليصف هذه الشهادات، أو «فعل يدعي» ليصف حقائق تم التوصل إليها بعد الفحص والتدقيق، وبوجود الدليل القاطع. هذا إذا لم نرغب الآن باستذكار كل ما قاله مبعوثو الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، أو المفوضون السامون لحقوق الإنسان، منذ سيرجيو فيرا دي ميللو، وماري روبنسون، إلى حد الآن. أو أن نتجاهل حقيقة استمرار جريمة الحرب الكبرى، وهي أن القوات الإسرائيلية ما زالت تفرض الحصار على المدنيين، وتقوم بإغلاق المعابر، وتسد منافذ الحياة عن المدنيين الفلسطينيين، أو أنها ما تزال تقصفهم في قراهم ومدنهم بصواريخ الطائرات، بعد أن دمرت التربة الزراعية، أو أنها شنت حربا كيميائية ضد المدنيين، وذلك بتسميم آبار الشرب. فما الذي يمكن تسميته عندما تقوم إسرائيل أمام أنظار وزراء الخارجية الأمريكية بحرمان البشر من الماء والغذاء والدواء، وبقتل من تيسر منهم يوميا، إذا لم يكن هذا الحرمان وهذا القتل حرب إبادة؟ لقد نشرت هيئات الأمم المتحدة تقارير مرعبة عن آثار نقص الغذاء على أطفال فلسطين، وعن تراجع مستوى أدائهم وذكائهم وحركتهم وحيويتهم، كما نشرت تقارير عن استشهاد أكثر من ثلاثمائة جريح فلسطيني بعد وقف إطلاق النار بسبب إغلاق المعابر، فمن المسؤول فعليا عن وفاة هؤلاء؟ يجب أن تؤسس الأمم المتحدة لجنة خبراء لتقصي حقائق جرائم الحرب التي ارتكبتها وما زالت ترتكبها إسرائيل، بما فيها جريمة الحصار، وسد المعابر، وتدمير حياة المدنيين العزل، وأن تحاسب عن كل حياة تفقد، وعن كل طفل يشل أو يعوق. إن التغاضي عن جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة، وتجاهل القتل اليومي للمدنيين الفلسطينيين، وصولا للتباهي بدعم الجرائم الإسرائيلية المرتكبة، هذه يفضح الموقف العنصري المعادي للعرب، الذي يطبع السياسات الغربية مهما تلونت لغة تصريحاتهم.

أول مستلزمات فعل ذلك، هو أن يبرهن العالم أن لا يوافق مع قادة الجيش الإسرائيلي بأن حياة الفلسطيني هي أقل بكثير من حياة الإسرائيلي، وأن يبرهن العالم أن استمرار التحكم بغذاء ودواء وهواء ومياه غزة من قبل ثلة عنصرية حاقدة هو أمر غير مقبول، وأن تبدأ الإجراءات ضدهم من عقوبات إلى تجريم ومحاكمة ومحاسبة. بدلا من ذلك فإننا نرى أن نتنياهو قد اتفق مع ليبرمان على زيادة حجم الاستيطان في القدس والضفة، والاستيطان هو العدو اللدود والحقيقي للسلام، لأنه يغير الواقع على الأرض ويجعل من المستحيل قيام دولة فلسطينية.

أو علمتم اليوم لماذا أغلقت السلطات الإسرائيلية الأبواب في وجه الإعلام المحلي والعالمي، ومنعته من الوصول إلى غزة؟ كي ترتكب جرائمها في الظلام، إذ ليس من الصعب على القوات الإسرائيلية ارتكاب جرائم بشعة ترتكبها منذ عقود، ولكن الصعب هو أن ينكشف أمر هذا الجيش، الذي يدعي الأخلاق والتقيد بحكم القانون، وأن يظهر للعالم على حقيقته، وهي أنه يمارس حرب الإبادة، التي مورست ضد الأبورجينز في أستراليا، وضد الهنود الحمر في الولايات المتحدة، وضد الأفارقة في جنوب أفريقيا، تحت ظل الأبارتيد. فكيف يجرؤ أحد على تجاهل كل هذه الوثائق والحقائق الموثقة، التي تضع القوات الإسرائيلية في مصاف أخطر قوى الإرهاب العنصرية في العالم. هل ينتظر العالم العربي أن يتحركوا لوضع آليات للمحاسبة؟ أين هي الشرعية الدولية ومجلس الأمن والقرارات التي تصدر تحت الفصل السابع؟ أهو الخوف من إرهاب اللوبي الإسرائيلي، الذي يمنع حتى كبار المسؤولين من قول الحقيقة، أم الاستهتار بحياة العرب وموقعهم، أم كلاهما معا؟ ما لم تسارع الهيئات الدولية إلى تأسيس محكمة مختصة بالجرائم الإسرائيلية في غزة، فليس من واجب أحد أن يعتقد بوجود عدالة دولية على أي صعيد.

www.bouthainashaaban.com