العرب .. إلى أين بعد «قمة الدوحة»؟

TT

«إن الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يُغيّروا ما بأنفسهم»

(سورة الرّعد - 11)

إذا كان الشيء بالشيء يُذكر ... فآخر ما يتمناه المخلصون للحالة العربية بعد محطتها القَطَرية في الدوحة أن تشكل نسخة موسّعة عن الحالة اللبنانية، التي سبق مرور قطارها المتعثّر في المحطة ذاتها.

فلا المحطة تحظى بثقة عربية عميقة، ولا القطار العربي قادرٌ في الظروف الاقتصادية والسياسية الصعبة على المضيّ في سبيله بقوى دفعه الذاتية، ولا السِّكة مأمونة في ظل العدوانية الإسرائيلية الجامحة والتغلغل الإيراني الطموح وحقبة التلمّس الأميركي الاختباري للشأن الخارجي بعد الكوارث التي تسبّبت بها «دوغماتية» المرحلة السابقة.

بل يمكن مجازاً تشبيه المواطن العربي، الذي بالكاد يشعر أنه «مواطن» وفق التعريف الدقيق للكلمة، براكب في قطار مخطوف.. لا يعرف هوية خاطفيه ولا يجرؤ على تخمين مصير مغامرة الخطف.

وهكذا، من دون تشاؤم، يجوز القول إن مصير العرب ما قبل الدوحة لن يكون أفضل منه بعدها. وليس ثمة ما يمكن إدراجه في خانة الإيجابيات غير الدّعوات الصادقة للجم الانزلاق في مغامرات خطيرة وسط اهتراء الوضع العربي واضطراب المناخين الإقليمي والدولي.

«المصارحة والمكاشفة» اللتان دعا إليهما الشيخ حمد بن جبر بن جاسم رئيس وزراء قطر ووزير خارجيتها مطلوبتان، لا شك، ولكن من غير الواضح ماذا بعدهما.

نعم، إنهما شرطان واجبان، لكنهما حتماً غير كافيين في ظل الاختلاف الجدّي في المواقف العربية، الذي وصل إلى حد التحريض السافر على تغيير الأنظمة، والتزام معظم الأفرقاء بجداول أعمال تصبّ في عكس مصالح جيرانها .. والإصرار عليها.

والملفات كثيرة. فهناك الوضع الفلسطيني في عهد نتنياهو – ليبرمان، وما يمكن أن يحدث للسودان بلداً ونظاماً، ثم آخر تطوّرات الحالتين العراقية واللبنانية .. و .. و .. تطول القائمة.

تغيّب بعض المتغيّبين من ذوي الأوزان السياسية الثقيلة عن القمّة يوجه رسالة إضافية، بعد تغيّب تسعة قادة عن قمة دمشق عام 2008، مفادها أنه يستحيل حسم الخلافات بكلام أخويّ جميل لا تواكبه أفعال ملموسة.

وأنه إذا كان البعض يرى مصلحة في إغلاق النوافذ ما أمكن في وجه العواصف الإقليمية ويعمل على ذلك، كما حصل في قمة الكويت الاقتصادية التضامنية مع الشعب الفلسطيني الأخيرة، فإنه لا يستطيع فعل ذلك بمفرده من دون اقتناع الجميع بأهمية المناعة الداخلية.

في هذه الأثناء، تواصل إسرائيل الهروب إلى الأمام من استحقاق يُفترَض في أي إسرائيلي عاقل أن يدرك أن تكلفته ستكون أكبر كلّما تأخر حلّه. والارتباك السياسي بعد الانتخابات الأخيرة يوحي بأن الإسرائيليين العقلاء الذي يريدون لصوت الواقعية المعتدلة أن يسود غدوا أقلية متناقصة يوماً بعد يوم، بينما يختطف الساحة انتهازيون ومغامرون وفاشيون .. إما يتوهّمون أن باستطاعتهم قطف ثمار تعنّتهم مجاناً، أو يريدون دعم خطاب متعنّت ومغامر عبر خطوط النار مع الفلسطينيين والعرب يُنهي القضية الفلسطينية ويزجّ المنطقة في فوضى لا تنتهي.. مستبعدين إمكانية امتداد ألسنة لهبها إلى إسرائيل.

وتواصل إيران تحصين دفاعاتها «هجومياً» داخل المنطقة العربية.. وصولاً إلى المغرب الأقصى! وهي تحاول ببراعة ركوب موجة «وحدة المسلمين» لخدمة استراتيجيتها الإقليمية، وتستثمر مرحلة إعادة التقييم الأميركية في تكتيك كسب الوقت الذي أتقنته عبر سنين عديدة.

أما واشنطن وحليفاتها الغربيات، فقد وجدت في الأزمة المالية والاقتصادية العالمية من جهة، وإفلاس سياسات جورج بوش «الابن» من جهة ثانية، مبرّراً لانكفاء فعليّ قد يطول وقد يقصر. والخطاب الذي يتردّد اليوم في واشنطن وبعض العواصم الحليفة - المرتاحة أكثر للتعامل بروح الفريق مع أميركا تحكمها ليبرالية باراك أوباما و«مثاليته» - هو ، بصراحة، الخطاب الذي يودّ المواطنون الأميركيون والأوروبيون سماعه.

فالمواطن الأميركي والبريطاني والفرنسي والألماني لن يتذكّر في خضمّ معاناته من تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية الخانقة .. «الغول الإسلامي» الذي ضخّم حجمه «المحافظون الجدد» بعد اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) 2001. وحتى إذا فعل، فثمّة تركيز حكومي على فصيلة معينة من هذا «الغول»، موجودة في أفغانستان وباكستان وبعض الجيوب المتناثرة. وللتعامل مع هذه الفصيلة - أي «القاعدة» وأشباهها - تسعى قيادات غربية علناً لتسويغ أشكال من «التعاون» الإقليمي مع طهران بحيث تكون شريكاً في الحملة المضادة.

أكيد، من السابق لأوانه الجزم بأن مقاربة من هذا النوع تقوم على أوهام مستندة إلى سذاجة أو عقدة ذنب، أو أنها مجرد مقاربة انتهازية محسوبة يحكمها الاستنساب المرحلي. ولكن مرور الوقت من دون حل علاج جذري لهواجس المنطقة العربية ليس في صالح أحد.. بما في ذلك الدول الغربية.

ثم إن رهانات بعض اللاعبين الإقليميين على تغيّر استراتيجي في منظور واشنطن - بالذات - إلى مصالحها، يمليه واقع بدء انهيارها كقوة عظمى، قد تكون في غير أوانها. ذلك أن سقوط «الإمبراطوريات» مثل الولايات المتحدة، وقبلها الإمبراطورية الرومانية والخلافة الإسلامية العربية ثم الدولة العثمانية وبريطانيا والاتحاد السوفياتي .. لا يحصل بين ليلة وضحاها. بل على العكس، يزداد خطرها وهي في حالة الوهن، كما حصل مع أنتوني إيدن وحلمه الإمبراطوري في «حرب السويس» عام 1956.

إن الحلول المرجوة في «قمة الدوحة» صعبة المنال لأن لا توافق على طبيعة الأخطار التي تهدّد العرب، ولا على أولويات التعامل مع هذه الأخطار. لكن الإنجاز الممكن تحقيقه، على تواضعه، قد يكون الكفّ عن الرهان على ما يُراهَن عليه اليوم.