موسم الهجرة إلى السودان!

TT

عاد الطيب صالح إلى وطنه الأم إلى الأبد!

مثل مصطفى سعيد، عاد الطيب صالح إلى السودان ـ تحديدا الجنوب ـ ليحيا على أرض دافئة، وتحت شمسه الساطعة،

في الواقع، بات صالح جزءا من الأرض، وتحول إلى شعاع شمس قوي.

عندما أنصت إليه في بداية الأمر، تركز اهتمامي على موسيقى كلماته. وتميزت نبرته بقوة الفولاذ، ونعومة الحرير. في أول الأمر، استرعى انتباهي نبرة حديثه، ثم بدأت ألتفت إلى الكلمات.

لقد تميز الطيب صالح بامتلاكه «آن»!

وهذه الكلمة في الفارسية لا يمكن ترجمتها. على سبيل المثال، يقول حافظ شيرازي: «المحبوب ليس من يملك شعرا أو وجها جميلا، وإنما المحبوب الحقيقي هو من يملك آن! ورغم أنه من السهل تفهم كلمة آن، يبقى من المستحيل وصفها. إلا أن الصوفية الإسلامية قدمت تعريفا خاصا لهذه الكلمة على النحو التالي: آن هي سر مقدس يدرك ولا يوصف.

أعتقد أن هناك أربعة مستويات من الـ«آن» في نثر الطيب صالح: (أ) موسيقى ونبرة الكلمات. (ب) الكلمات ذاتها. (ج) المعنى. (د) التركيب. وأعتقد أنه في إطار الأدب العربي، تعد رائعة الطيب صالح، «موسم الهجرة إلى الشمال»، واحدة من أفضل الأمثلة.

على سبيل المثال، تحمل العبارة الأولى في روايته نبرة موسيقية خاصة، «عدت إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة»،

وتأتي هذه الجملة الأولى لتحدد النبرة العامة للعمل وتشرح للقارئ حبكة القصة.

ويظهر صوت موسيقى الهجرة من الشمال إلى الجنوب. ويبدو العمل بأكمله أشبه بصورة موسيقية! مثلا، يقدم الطيب صالح مصطفى سعيد على النحو التالي:

«ونظرت إلى ذراعيه فكانتا قويتين، عروقهما نافرة، لكن أصابعه كانت طويلة رشيقة، حين يصل النظر إليهما بعد تأمل الذراع واليد، تحس بغتة كأنك انحدرت من الجبل إلى الوادي».

وبوجه عام، تبدو الرواية أشبه بمعرض للرسومات، ويظهر ذلك في نبرتها وموسيقى كلماتها، حيث بدأنا نتعرف على مصطفى سعيد، من خلال الصورة المرسومة له. وأصبحنا نعرفه ليس فقط عبر صفاته الجسدية، وإنما كذلك عبر روحه العميقة، ما يعني أن الطيب صالح، درس كل كلمة كتبها، بل ربما امتد تفكيره في بعض الأحيان إلى الحروف ذاتها، ونبرة الحديث. وعندما أتحدث عن النبرة، أتعمد التمييز بين النبرة الداخلية والأخرى الخارجية، وبينما تشير الأولى إلى الجسد، ترتبط الثانية بالروح.

تعد النبرة أشبه بخيط غير مرئي، يشد الكلمات ببعضها بعضا. مثلما الحال مع القرآن الكريم، الذي قال عنه طه حسين: «إن القرآن ليس شعرا ولا نثرا، إنه القرآن!»، أود اقتباس هذا الوصف في الحديث عن الأعمال النثرية للطيب صالح. فهذه الأعمال تتميز بطابع نثري خاص يختلف عن النمط المعتاد الذي نقرأه، على سبيل المثال، في روايات نجيب محفوظ. من الصعب التوصل إلى النبرة الخاصة.

والمؤكد أن «موسم الهجرة إلى الشمال» ليست قصيدة، لكنها أشبه بآخر أعمال النثر الشعري لمحمود درويش.

عندما أقارن بين الأعمال النثرية للطيب صالح ومحمود درويش، أشعر بوجود نبرة متألقة بأعمال درويش، لكن تبقى بساطة أسلوب الطيب صالح، فريدة من نوعها.

وحسبما قال القديس توماس الأقويني، فإن الرب بسيط على نحو مطلق. عندما يحاول درويش، زيادة بساطة أعماله الشعرية والنثرية، تتخذ شكلا مغايرا عن المعتاد. مثلا، انظر إلى قصيدة «أحن إلى قهوة أمي...» إنها رائعة! وفي الواقع، تمس هذه القصيدة أعماق أرواحنا، وتشعر وأنت تقرأها وكأنك تجلس إلى جوار والدتك تتحدث إليها، بينما تنهمك هي في إعداد فنجان من القهوة لك، تحمل على وجهها ابتسامة وتنظر في عينيك.

أعتقد أن الطيب صالح، نجح بالفعل في أن يمس أرواحنا، فعند قراءة الرواية ينتابنا شعور بأن مصطفى سعيد، صديق لنا، أو شقيقنا. نشعر وكأنه جزء من أرواحنا. ونحيا على الأبد برفقته. ومثلما أكد راوي القصة، من المستحيل نسيان مصطفى سعيد. أمعن النظر في هذه الجملة الواردة ببداية الرواية: «أنا أحن إليهم وأحلم بهم.. ذاك دفء الحياة في العشيرة فقدته زمانا في بلاد تموت من البرد حيتانها».

تحمل هذه الفقرة كلمات ومعاني مبهرة، وتبدو وكأنها تتدفق داخل الرواية مثل الجداول العذبة، التي تصب في المحيطات.

وفي ثنايا الرواية، لم نشعر بموت الحوت جراء البرد فحسب، وإنما أيضا استمعنا إلى: «حتى يئن الحجر ويبكي الشجر ويستغيث الحديد..» (ص. 120).

لقد ابتدع الطيب صالح، عالما جديدا بكلمات جديدة. ويبدو كما لو أن كلماته تحمل في ثناياها سرا مقدسا، ذلك أن كل كلمة منها تحمل ظلا، ولكل كلمة بعد غير مرئي. ويبدو كما لو أنك ـ كقارئ ـ عليك المشاركة في كتابة الرواية!

في الحقيقة، العمل بأكمله أشبه بأحجية يتعين على القارئ جمع أجزائها! على سبيل المثال، لا نعلم اسم الراوي. كما أن لمصطفى سعيد مجموعة متنوعة من الشخصيات، بعض منها لا ندركه، مثل الأوقات التي يبدو وكأن الراوي ومصطفى سعيد، هما ذات الشخص.

كما أننا لا نعلم اسم القرية، التي تدور حولها الرواية! فما هو اسم تلك القرية الصغيرة الواقعة على ضفاف النيل؟

من خلال بعض الوصف الذي ورد بالرواية، يمكننا تخيل هذه القرية، مثل: «القرية الصغيرة عند منحنى النيل..» (ص.11). «تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل» (ص. 72). «قرية المغمورة الذكر على النيل» (ص. 79).

ربما كنا نحن الراوي الحقيقي! وربما كانت تلك قريتنا. هل يمكن القول بأن القرية والراوي رمزان للبشر والوطن الأم؟

إننا نتعرف على الغرب والشرق والجنوب والشمال اعتمادا على النيل، فهو نبع الحياة، ومعنى الحياة، والوجهة التي يقصدها مصطفى سعيد، والراوي. كما أن القرية الصغيرة تقع على ضفافه، ما يعني أن النيل أشبه ببطاقة الهوية داخل الراوية، فهو البداية والجهة المقصودة. باختصار، النيل هو خط الوعي الرئيس في «موسم الهجرة إلى الشمال».

في الحقيقة، من المستحيل الشعور بالنيل بدون وجود موسم الهجرة! مؤخرا، قرأت كتاب «النيل في الشعر السوداني»، للمؤلف فتح الرحمن حسن التني. يحوي الكتاب الكثير من القصائد حول النيل، علاوة على بعض القصائد التي وضعها شاعر النيل، حافظ إبراهيم. لكن النيل كائن حي فعلا في «موسم الهجرة إلى الشمال». ودعوني أقول إننا نبدو في هذا العمل وكأننا جزء من النيل، ذلك أننا نشارك الراوي ومصطفى سعيد مشاعرهما. ونسبح في النيل، متجهين شمالا أو جنوبا، شرقا أو غربا! في الواقع، يحيطنا النيل من كافة الجهات.

ومن المستحيل وصف السودان دون ذكر الطيب صالح. ومن العسير للغاية التعرف على الاستعمار، خاصة بوجهيه الاجتماعي والثقافي، بدون قراءة روايته. على سبيل المثال، يقول الطيب صالح: «حين جيء لكشنر بمحمود ولد أحمد، وهو يرسف في الأغلال بعد أن هزمه في موقعة اتبرا قال له: «لماذا جئت بلدي تخرب وتنهب؟» الدخيل هو الذي قال ذلك لصاحب الأرض، وصاحب الأرض طأطأ رأسه ولم يقل شيئا، البواخر نحرت أرض النيل أول مرة تحمل المدافع لا الخبز، وسكك الحديد أنشئت أصلا لنقل الجنود، وقد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول نعم!»

أما «نعم» تلك فلها قصة أخرى!