في جناح همنغواي.. في انتظار ألا يأتي

TT

عندما سافرت إلى باريس، ذات مساء رمادي من أيلول، وأنا بعد في العشرين (هل من الضروري أن أكرر، في العشرين؟) كان الحلمان ما يزالان في ثنايا الليل وطيات النهار: الحلم بعودة الحب الأول من دنيا الحقيقة التي ذهب إليها وذاب طوعاً فيها، والحلم بأن أصير همنغواي. وأي مكان في الأرض أفضل من باريس لأن تصبح همنغواي آخر. هنا، قرب حديقة اللوكسمبورغ، في الغرف الصغيرة في أعلى الفنادق التي لا مصاعد فيها، هنا، ما أن يصل المرء ويفلش حقيبته الخاوية وقمصانه النايلون ودفتره الأزرق المربع الأسطر، حتى يصبح همنغواي. أو جويس. أو ارابال. أو ايونسكو. أو يا مولاي حتى صامويل بيكيت، صاحب «في انتظار غودو»، الذي هجر خضرة آيرلندا وصخورها المالحة وشواطئها الناحبة ونوارسها الشاكية أبداً، لكي يسكن في زقاق صغير، يطل من نوافذه العتيقة على حضارات الكون. هنا، إذن، سوف أكون «في انتظار همنغواي». وفي انتظار الحب الأول. وكلاهما لن يأتي. الأول، لأنني لست توأمه ولا حتى ظلا في ظله. وفي تجربته. وأما الحب الأول فسحابة سعيدة، تطل دائماً من سماء المفاجأة وتهطل غالباً في المروج الأخرى. تلك هي الحياة، محبرة تندلق على الورق، بنفس الشغف ونفس الالتياع ونفس الاستسلام للهزيمة الأولى في الصبا الأول. لكن ببطء. وبألم غامض، عذب ومعذب.

في باريس سوف أتسكع عبثاً، بحثاً عن همنغواي. ارنست همنغواي. ولن أعثر هنا إلا على الإطار الذي حدثنا عنه. الشتاء الحزين، الذي يهبط مرة واحدة في اليوم الأخير من الخريف. وأضواء الشوارع الجميلة التي نسي همنغواي أن جيرار دو نرفال قد شنق نفسه على أحد مصابيحها بعد عودته من المشرق. مسكين المسيو دو نرفال، لقد عضته جرثومة لبنان وخدره لفح المتوسط ونسيم الصبح فلما عاد إلى مدينة النور، لم يرَ للنور أثراً إلا في مصابيح الجادات الصامتة، فتسلق أحدها وتدلى ومات ميتة أهم من أدبه.

طالما فكرت، وأنا أعبر شوارع باريس في الليالي الباردة، من أقصاها إلى أقصاها، في حال المسيو دو نرفال بدل البحث عن المستر همنغواي. وكنت أسرع، كلما مررت تحت المصابيح خوفاً من الحل الذي عثر عليه كلاهما: المستر همنغواي، برغم كل ما حصد من نجاح ومن مال، أمسك بندقية الصيد وأطلقها في فمه. والمسيو دو نرفال تراكم فشله وحزنه فلم يعد يذكره مصباح النور إلا بأنه بوابة عالية إلى الرحلة الأخيرة في العتم الأخير. ما أفظع اليأس عندما يمر بنا في لحظة الضعف. لذلك لم أتطلع إلى فوق، إلى المصباح، بل أكملت تسكعي في برد باريس.

إلى اللقاء