حماية الاطمئنان السعودي

TT

السعودية بلد ليس له اختيار بأن يحتجب عن الأحداث ويختبئ عن المشكلات، فالحجم والوزن ـ السياسي والروحي والاقتصادي ـ والموقع والتاريخ والحاضر، كلها مواصفات تفرض الدور على السعودية دون طلب له، لا بل حتى لو لم ترغب في هذا الدور، هذه هي معطيات الواقع ولوازم الحال.

هذا هو قدر السعودية بشكل عام، وفي كل آن، كيف وقد انفجرت المشكلات وتدفق صهير البراكين السياسية والاقتصادية والأمنية من كل الجهات؟ مؤكد، والحال كذلك، أن يتضاعف الدور ويتنامى التأثير وتعظم المهمات «العاجلة» على هذا البلد الضخم، وتضيق فسحة التأجيل والتريث وإرجاء الأمور إلى أجل غير مسمى.

منذ غزو صدام للكويت 1990 وما تبع ذلك من حرب مضادة على صدام المحتل حتى تم تحرير الكويت، وانقسم العرب حينها، كما اليوم، إلى معسكرين، منذ ذلك الحين وما جرى بعد ذلك الحين من بزوغ القاعدة وتنظيمات الأصولية العسكرية التي ضربت يمين الأرض وشمالها حتى أنجزت واقعتها الكبرى في 11 سبتمبر 2001، وما تخلل ذلك من عودة الهيجان الخميني الثوري إلى إيران على خلفية السلاح النووي ظاهريا، والنفوذ الإيراني باطنيا، وفصول الكر والفر بينها وبين العالم، وإشعالها لمنطقة الشرق الأوسط بكاملها، يساندها في ذلك كتيبة من الصحافيين وثلة من عتاة القوميين ومعهم جماعة الإخوان المسلمين، بغرض رسم صورة سوداء عن وجوب انتصار «معسكر المقاومة» على معسكر «الهزيمة» وترجمة هذا الكلام حرفيا: إسقاط دولة السعودية ومصر ودول أخرى، لصالح إيران الخمينية وعلى الهامش منها الإخوان المسلمون ومن يعلق بهم من بقايا القوميين واليسار.

منذ ذلك الحين والدولة السعودية، والشخصية السعودية، بل وفي حالات متطرفة: الإنسان السعودي، يتعرض لسيل هادر من الهجمات والتشكيك في والتشويش، بفعل فضائية فرخت فضائيات! تعتمد نفس اللغة والمفردات وتتفق على ذات التصور «المغلوط» عن حقيقة الاختلاف بين السعودية ومصر ودول عربية أخرى من طرف، وبين إيران وسورية والأحزاب المتحالفة معهما من طرف آخر، فهو خلاف مصالح وتضاد حقيقي وليس مصطنعا، ولا هو، بالضرورة «شخصي» أو «مشخصن» كما يحاول بعض المتحذلقين الترويج له بشكل بالغ التسخيف للمشكلة بإعادتها إلى «شيء في الخاطر» يحل بابتسامة وكلمة طيبة..

هكذا عاشت السعودية، وتعيش الآن، هذه الأعاصير الإقليمية والعالمية في الخارج، غير ناسين أبدا كارثة العراق الذي لم يخرج بعد من غرفة العمليات وهو تحت مشارط الجراحين ومعهم ثلة متخفية من القتلة بثياب الجراحين! وغير ناسين أيضا مشكلات: اليمن والسودان وغزة ولبنان وباكستان وأفغانستان.. وكلها مشكلات تمس بشكل واضح مفهوم «الأمن الوطني» السعودي.

ليت الأمر اقتصر على هذه الأعاصير السوداء، بل انضاف إليها مرض اقتصادي عضال أعيا الأطباء في العالم، وان كانت السعودية هي الأقل تضررا، إلا أنها في نهاية الأمر «تضررت» وشكا الكثير من حمى هذا المرض وفقد آخرون مدخراتهم أو جزءا منها في البورصة، وعانى من عانى، وهناك مطلب الإصلاح الملح في مرافق أساسية في الدولة السعودية مثل القضاء والتعليم والحقل الديني المؤسسي بشكل عام بكل الإدارات والأجهزة الممثلة له، وأيضا التحدي الماثل في تعزيز مفهوم المواطنة ومكافحة كل ما يضعف هذا المفهوم، الذي هو الأساس في أي دولة ومجتمع بالعالم وإلا تناثر المجتمع مثل حبيبات الرمل عند أول هبة أو نسمة. وهناك تحديات في موضوع العمل والبطالة وإدماج المرأة في شرايين الإنتاج الوطني وخلق خطاب وطني جامع في شعب ناهز عشرين مليون نسمة أغلبه من الشباب، هؤلاء الشباب الذين هم أكثر من يطالع الانترنت ويتواصل مع العالم ويسافر في مشارق الأرض ومغاربها ويطمح ويحلم.

هذا هو البلد « الضخم» وهذا طرف مما يجابه هذا البلد من تحديات، زادت وتيرتها، وتزيد، عاما بعد عام بل شهرا بعد شهر، هذه هي السعودية، ومن حسن الطالع وابتسامات القدر أن كان ملك البلد في هذه المرحلة، الملك عبد الله بن عبد العزيز، مدركا بكل مباشرة ووضوح هذه الحاجات والتحديات منطلقا بكل عنفوان الشباب إلى التغيير والإصلاح والتحديث في الدولة وإطلاق المبادرات الاجتماعية التي تضخ الدماء في جسد المجتمع حتى تنبث في هذا المجتمع روح الحركة والتغيير وهي روح إذا اشتعلت فهي كفيلة بصنع المعجزات.

الملك عبد الله لا يكف عن إطلاق المبادرات واتخاذ القرارات التي تستجيب لتحديات المرحلة، وهي مبادرات في كل ميدان من ميادين الدولة والمجتمع، يفعل ذلك بحيوية وتدفق واستمرار حتى أصبح الإعلام يلاحق تحركات الملك بتعب وجهد، وحتى وضعت مجلة نيوزويك الأميركية الشهيرة على غلافها الأخير صورة الملك وهو يضع سيفا على عاتقيه ويرتدي ملابس الحرب التقليدية في التراث، واضعة عنوانا وجيزا ومباشرا يلخص أفعال وتأثيرات الملك عبد الله، كانت العبارة / الرسالة هي: «ثورة ملك»! وهي عبارة ربما كانت توحي بالفعل العسكري المباشر، لكن الغرض منها هو القول بأن ما يفعله الملك السعودي في تحريك مجتمعه وتجهيز دولته لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية هو فعل شاق وشجاع يشبه فعل قائد الجيوش العسكرية الكبرى في المواجهات الحاسمة.

هنا دعونا نتوقف عند ملمح هام في تحركات الملك عبد الله، وهو ملمح المرونة والسرعة، فهو لا يجمد عند قرار معين اتخذه إذا ما تغيرت الظروف واستجدت الأحوال، والأمثلة على ذلك كثيرة، لكن أبرز وأقرب مثال على ذلك هو القرار «الكبير» الذي اتخذه الملك هذا الأسبوع قبل أيام بتعيين الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية، تعيينه نائبا ثانيا لرئيس مجلس الوزراء، وهو القرار الذي بث إشارة اطمئنان قوية للسعوديين على تماسك واستقرار منظومة الحكم والإدارة العليا في البلد، فهذا المنصب الحيوي يعني أن هناك مساعدا قويا ومتينا لربان السفينة السعودية، ينوب عنه إذا انشغل في الخارج أو أراد إيكال مهمة كبرى له تتجاوز حدود وزارة الداخلية.

منصب النائب الثاني اعتاد عليه السعوديون منذ أيام الملك فيصل بعد توليه الحكم 1964، واستحداثه لمنصب النائب الثاني، باعتبار أن الملك هو رئيس مجلس الوزراء وولي عهده هو النائب الثاني، وبالفعل كان الملك خالد ولي العهد حينها هو النائب الأول والملك فهد (الأمير حينها وزير الداخلية أيضا) هو النائب الثاني. وفي عهد الملك خالد الذي تولى الحكم 1975 صار ولي العهد الملك فهد هو النائب الأول والملك عبد الله (الأمير حينها) هو النائب الثاني، وفي عهد الملك فهد الذي تولى الحكم 1982 صار النائب الأول هو الملك عبد الله، ولي العهد حينها، والنائب الثاني هو الأمير سلطان، وتولى الملك عبد الله الحكم 2005 ليصير الأمير سلطان وليا للعهد ويبقى منصب النائب الثاني شاغرا لأول مرة منذ استحدث في عهد الملك فيصل، وظل الأمر كذلك حتى صدر نظام هيئة البيعة بمواده الغزيرة والتفصيلية، وعلق الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية على شغور موقع النائب الثاني بالقول إن منصب النائب الثاني هو «اختياري للملك» («الشرق الأوسط» 8 أغسطس 2005).

لكن لما دعت الحاجة إلى تفعيل هذا المنصب من جديد، سواء لطبيعة مهام الملك أو لطبيعة ظروف ولي العهد، فعل الملك هذا المنصب ووضع فيه الرجل الأنسب والأجدر، وهو الأمير نايف بن عبد العزيز، القائد الأول لملف الأمن في البلد، وأحد مخضرمي مجلس الوزراء من أبناء الملك المؤسس عبد العزيز، الشخص المتحدث بلغة رجل الدولة في الملفات السياسية الكبرى. لذلك فإن مصلحة الدولة العليا وحماية الوطن السعودي هي أولى الأولويات عنده وما بقي من نقاشات داخلية أو خارجية فهي محل أخذ وعطاء ونقاش، باستثناء أمن ومصلحة البلد والوطن.

هي إذن إشارة ملكية قوية للاستقرار وطرد القلق وضع فيه رجل دولة عرف عنه اليقظة الشديدة والحرص على مصلحة الدولة والحكم والوطن.. حتى تبقى السفينة السعودية صامدة في الإبحار وسط أمواج التحديات.