دموع الطيب صالح.. ودموعي!

TT

كان صباحا بهيا في دولة الإمارات، وبالتحديد في مدينة دبي، الشتاء له طعم خاص في هذه الدولة، حيث يتقاطر إليها الأوروبيون كالطيور المهاجرة إلى واحة الدفء من صقيع ديارهم القارص، تفتحت عيناي ذلك الصباح على شمس في غاية الإشراق، وهي عملة صعبة طوال سنين مهجري التي تجاوزت العشرين عاما في المملكة المتحدة، وبالتحديد عاصمة ضبابها الكثيف (لندن)، وفي معظم السنين يمر فصل الشتاء بأكمله ولا تشاهد شمسا بهذا الإشراق.

صحوت باكرا لأنني كنت على موعد مع وكيل وزارة الصحة المساعد الصديق الدكتور أمين الأميري، ومقر وزارته مدينة أبوظبي الأنيقة، وتطوع أحد فتيان بلادي لقيادة السيارة كعادتهم في المهجر، تواقين لرد الجميل.. كان السائق مصطفى الدسوقي إدريس من مدينة كرري، تفاكرنا في أسرع وليس أقرب الطرق إلى مدينة أبوظبي، فقد أصابت أمراض الحضارة هذه الدولة العصرية بكل معاني الكلمة.

عزيزي القارئ، ما أود أن أقوله إنك ستصل أسرع من دبي إلى أبوظبي كلما كانت المسافة أطول، لتجنب ازدحام الطريق وأرتال السيارات. رغم اتساع طرق المرور السريع قررنا أن نسلك طريقا يختصر زمن الوصول ساعتين ويزيد مسافة الطريق 72 كلم، وهذه مفارقة، وهي إحدى آفات العصر، ولكن قطعا أخف وطأة من الباجا وهي مسافة باتساع 13 كلم جنوب مدينة دنقلا باتجاه الخرطوم، هي نفس المسافة بين منزلي والمستشفى الذي أعمل به في بريطانيا، أقطعها في 11 دقيقة، وكان اللورى يحتاج إلى يوم بحاله لقطع الباجا، وهي عبارة عن أرض أقرب إلى السيولة منها إلى الصلابة، ومعركة يهابها أمهر السائقين، وأتى طريق شريان الشمال وغير الحال من حال إلى حال.

سرحت في الكثبان الرملية اللانهائية بلونها العسجدي على جانبي الطريق، مررنا على مضمار سباق الهجن في قلب الصحراء، رأيت أحدث الوسائل للتدريب، تأملت المنازل البدوية البدائية وحولها الإبل وكنت غادرت دبي بكل زخمها الحضاري وعمرانها الفاتن، فقد بدأت دبي حيث انتهى الغرب في مجال المعمار والتسوق والطيران.

منذ بداية الرحلة كنت كلي أذنا صاغية للوحة فنية من مسجل السيارة قصدت إعادتها مرات ومرات وهي رائعة عبد العال السيد وكمال ترباس «انت العزيز افرد جناحك وضمني خايفك تفوت والدنيا بيك ما تلمني.. انت المهم والناس جميع ما تهمني». كلماتها لحن ولحنها كلمات، وهي نتاج طبيعي لعملاقين أثريا الساحة الفنية، قطع اندماجي مع الأغنية رنين الهاتف الجوال أو الخلوي كما يحلو لأهل الخليج تسميته، تطلعت إلى شاشة الهاتف، كان الاسم «أوبرا عايدة»، هي عايدة عبد الحميد القمش، لم أعطها فرصة للكلام، أمطرتها وابلا من عبارات الإطراء والفخر والإعجاب.. عايدة، عزيزي القارئ، حصلت على جائزة الأم المثالية العربية 2009 من بين مئات الأمهات في كافة أنحاء العالم العربي. رد فعل عايدة لم يكن بمقدار حماسي لها، قاطعتني وقالت يا دكتور: «أنا متأسفة أنقل إليك خبرا حزينا جدآ.. الأديب الأستاذ الرائع الطيب صالح توفي بلندن، عرفت الخبر من الإنترنت فجرا».

وجمت وصمتّ، قلت لها: «مش معقول.. البقاء لله وحده».

تبادلت مع عايدة عبارة «له الرحمة وحسن الخاتمة» انتهت المحادثة.

امتلأت عيناي بالدموع.. بكيت وانتحبت.. لقد كنت في طريقي إلى لندن بعد يوم، كان هو على قائمة أولوياتي بأن أزوره بمستشفى «سانت هلير» (st helir) بجنوب لندن، فهو طريح الفراش طيلة ثلاثة أشهر، قطع صمتي صوت مسجل السيارة وتلك الأغنية.. «انت العزيز افرد جناحك وضمني .. خايفك تفوت والدنيا بيك ما تلمني»، تسمرت أذني على هذا المقطع الأخير تحديدا الذي كان «مرثية» بحالها، فقد فات الصديق والأديب وابن البلد الطيب صالح ولن تلمني به الدنيا مرة أخرى.

اتصلت على الفور بصديق الطيب صالح وبصديقي الأخ محمود عثمان صالح، تبادلت عبارات التعازي بأسى، بادرت محمود قائلا: هل سبب الوفاة المباشر «التهاب رئوي؟».. أجاب مؤكدا «نعم».. وقاطعني.. «انت عندك خبر؟».. قلت له: «لا.. ولكن هذا هو السيناريو الأعم في مثل هذه الحالات المرضية»، بادرني: «معي بشير شقيق الطيب صالح وعمر صديق سفير السودان في لندن، ونحن بالسفارة لإكمال إجراءات ترحيل الجثمان إلى السودان».. تبادلت التعازي معهم ودعوت لهم بالصبر.

كانت أول ليلة شتاءً قارصا في مدينة «بورت ماوث» الرابضة على الساحل الجنوبي لانجلترا. قبل أربع سنوات رن جرس الهاتف، كان على الجانب الآخر صوت جهوري إذاعي وقور دافئ مليء بالعزة والكبرياء المتواضع، قال محدثي: «إزيك يا دكتور.. معاك الطيب صالح من القاهرة.. أنا باشكرك على كل العمل الجميل البتسويهو لأهلنا في السودان، وعاوز أوصيك على أخونا وحبيبنا سيد أحمد الحردلو، فهو كما تعلم مصاب بالفشل الكلوي، وأنا على استعداد لإكمال إجراءات سفره إلى الدوحة لإكمال العلاج، وأنت ما مشحوت عليهم».

علمت أن برد الشتاء القارص في لندن كان وراء وجود الطيب صالح في القاهرة، وهو القائل عن انجلترا «البلد التي تموت من البرد حيتانها»، كانت القاهرة من أحب المحطات إلى قلبه مثلها مثل أصيلة وفاس في المغرب، قلت له «يا أستاذ الطيب.. دا واجب.. وأنا على اتصال دائم بالأخ سيد أحمد الحردلو وشكر الله سعيكم»، كانت هنالك محبة ومودة خالصة وخاصة بين العملاقين الطيب وسيد أحمد، كلاهما من الشمال رضعا من ثدي واحد، هو النيل الخالد (سليل الفراديس)، لم يكن حينها الطيب صالح يعلم أن ما أصاب الحردلو بدأ ينهش في كليتيه ببطء وفي صمت، إنه القاتل الصامت «الفشل الكلوي اللعين».. كان هم الطيب صالح صحة الحردلو، وقتها كان مصابا بارتفاع ضغط الدم، ولكن حبه للناس والإبداع والترحال أنساه الالتفات لصحته في بواكير مرضه.

كان وما زال منزل الشيخ الدكتور إبراهيم الطيب الريح، بسويس كوتج (swiss cottage) بوسط لندن، عامرا بالموائد التي يتجمع حولها السودانيون في المهجر، وعلى رأسهم الطيب صالح، أعطاه شيخ إبراهيم في إحدى الأيام مقالا نشر لي في جريدة «الرأي العام» يجسد الصراع ما بين الشر والخير، وكان عن أول سيدة أجريت لها عملية زراعة كلى في مستشفى أحمد قاسم، وهي السيدة «مها سرور»، صارعت المرض بعزيمة وإصرار طوال ثماني سنوات، انقطع عنها الحيض بسبب المرض، وحرمت من الأبناء وهي متزوجة في الثامنة والعشرين من العمر، احتال احد ضعاف النفوس واختفى بالفلوس التي كانت قد جمعت منها 27 ألف دولار عند لقائي بها لإجراء عملية الزراعة بالأردن، ومعها جواز سفرها وجواز والدتها وأخيها، نجحت عملية زراعة الكلى لـ«مها» وهي تجسد تمسكها بحقها الطبيعي في الحياة، أجهشت بالبكاء عندما رأتني في اليوم الثاني للعملية، كانت دموع الفرح والشكر.

تعافت مها وخرجت من المستشفى، عاد لها دم الحيض، حملت ووضعت طفلا أقر عينها وكان يوم عرسها الثاني.

قرأ الطيب صالح هذه الخواطر، واتصل بي تليفونيا وقال لي: «يا دكتور بكيتنا وبإنجليزية رصينة كعادته..you are an excellent story teller، أنت روائي رائع أرجو أن تواصل مشوار الكتابة، وأرجو أن توثق هذه التجارب الإنسانية في كتاب، وأنا على استعداد تام للتقديم له..

كم تمنيت أن يعيش الطيب صالح، ويكون جزءا من هذا الحلم الذي تمناه لي..

كان للطيب صالح معزة خاصة عند الشيخ الدكتور إبراهيم الطيب الريح أساسها الود والاحترام، وفر لنا شيخ إبراهيم فرصة البقاء سويا أنا والطيب صالح في أسبوع الخرطوم عاصمة الثقافة ضمن وفد ضم قمما ثقافية عربية وأوروبية، وكان على رأسهم الكاتب الصحافي الأستاذ محمد الحسن أحمد، فقد غيبه الموت. عاد الطيب صالح إلى أرض الوطن وقتها بعد غياب دام 18 عاما، احتفى به الجميع، كلٌ على طريقته، كرمته جامعة الأحفاد، نادي عبد الكريم ميرغني الثقافي، اتحاد الطلاب السودانيين، اتحاد المرأة، واتحاد الصحافيين السودانيين.. ووو..

كنا جلوسا في السيارة في طريقنا لإحدى المناسبات، حدثني عن أيامه في وادي سيدنا، وحصوله على «قريد ون» في كل المواد، وخاصة في المواد العلمية، ودخوله إلى كلية العلوم بجامعة الخرطوم، بالرغم من توجهاته الأدبية، وتشجيع أحد الأساتذة الإنجليز له بدخول كلية الآداب آثر أن يترك مكانه المرموق في كلية العلوم للالتحاق بسلك التدريس، وكانت أولى محطاته مدينة رفاعة، كانت تضحية من أجل الأهل، تقدم وقتها إلى وظيفة في الدراما للالتحاق بـ«B B C» في لندن، سمع عنها بمحض الصدفة في الإذاعة، اجتاز المعاينة، شكلت هذه الصدفة غربة الطيب صالح باتجاه الشمال، وبدأ موسم الهجرة في شهر فبراير (شباط) 1952، وقال لي: «سلكت طريق البر إلى القاهرة، ثم البحر إلى فرنسا، والعبارة لقطع القنال الإنجليزي من مدينة (كاليه) في فرنسا إلى مدينة دوفر جنوب شرقي إنجلترا»، وكيف بهره منظر الصخرة البيضاء(the white cliff)، وهي عبارة عن جبل جيري بعلو 120 مترا على حافة القنال، وبهرته الخضرة اللانهائية، وهو القادم من صحراء الشمال الجرداء كتب عن منازل الإنجليز ذات الطوب الأحمر القاني المتراصة بتناسق.

قال لي: «كرهت ديار الإنجليز، وكدت أرجع إلى السودان بسبب برد الشتاء، وصقيع شهر فبراير، ولكنني تحاملت على نفسي».

قرأت «موسم الهجرة إلى الشمال»، كغيري من الناس، أكثر من خمس مرات، كان لها طعم خاص بعد اغترابي إلى ديار الإنجليز، كنت محظوظا أن أنحدر من نفس الديار التي ترعرع فيها الطيب صالح في شمال السودان على النيل الخالد.

كرمكول، دبة الفقراء، والدبة، وأرقي، عناقيد تزين جيد نهر النيل، وهو ينحني تأدبا لتلك الديار، عملت بجزيرة «آيل أوف وايت»(Isle Of White ) بإنجلترا، كانت أحد مسارح الرواية عاشت بها مسز روبنسون، داعبت مرة الطيب صالح عندما قلت له، كان عمري 8 سنوات عندما عدت من الجزيرة إلى أرقي بعد أن قابلنا جدي لوالدي القادم من الأراضي المقدسة بعد أداء فريضة الحج، أهداني ساعة كانت وقتها أكبر من يدي النحيلة، عبرنا ضفة النهر من مدينة الدبة إلى قرية أرقي على قارب، كنت أداعب الماء على حافة المركب بيدي الصغيرة، انزلقت الساعة واستقرت في قاع النهر، قلت للطيب صالح: «غرق مصطفى سعيد في نفس الموقع إعجابا بساعتي وأخرجها قبل أن يغرق، فهل له أن يرد الأمانة لي؟».

كان عزيزا، فرد جناحيه.. ضم الوطن بحاله.. وقبل أن يعيد لي الساعة، قلت له: «خايفك تفوت والدنيا بيك ما تلمني .. أنت المهم والناس جميع ما تهمني..»!

* جراح كُلى سوداني