الغارات الصامتة؟!

TT

وقت كتابة هذا المقال لم تكن القمة العربية قد انعقدت بعد، ولم يكن واضحا على وجه الإطلاق أيٌّ من نتائجها، بل إنه لم يكن معلوما من الذي سوف يحضرها على وجه اليقين، ولكن المرجح أن القمة سوف تنعقد بمن حضر، وهناك قائمة ضخمة من القرارات الدورية التي تصدر كل مرة، وربما جرى بعض اللوم أو العتاب حول من جاء أو ذهب، وسوف يتجدد الحديث عن المصالحة العربية وجديتها، والمدى الذي وصلت إليه الأحوال من تدهور أو صمود في العالم العربي. ولكن ـ يا عزيزي القارئ ـ لا تبتئس كثيرا، فبعد أيام سوف ينسى الناس الموضوع، وتنتقل الدول إلى جدول أعمال آخر، ولن يتذكر أحد ما جرى فعلا في هذه القمة، إلا إذا كنت قد تذكرت ما جرى في القمة الماضية أو تلك التي كانت قبلها.

فالحقيقة أن قلب العالم العربي لا يدق على توقيتات القمم العربية، وربما تحظى القمة ببضعة سطور في الصحف العالمية أو دقيقة في الإذاعة أو ثوان في التلفزيون، بل إنني لست متأكدا أنه وقت كتابة مقال الأسبوع القادم سوف تكون أهمية تذكر باقية للقمة العربية. ولا يعد ذلك استهانة بأي معنى للقادة العرب، فمهما كان الرأي فيهم أو في أدائهم في الحكم، فإنهم مسئولون عن شعوب عربية يبلغ إجمالي عددها قرابة 350 مليون نسمة أو أكثر، أو ما يماثل عدد الولايات المتحدة ويعيشون على ذات مساحتها تقريبا. ولكن المعضلة هي أن الطريقة التي صممت بها القمة مؤسسيا قامت على قدر غير قليل من عدم الجدية، حيث قامت على افتراض أنها تمثل مجلس حكم لدولة عربية افتراضية ممتدة من الخليج إلى المحيط، ويقع على هذا المجلس كل آمال وتوقعات الدول الأعضاء وشعوبهم وكتابهم، ومؤخرا انضمت لكل هؤلاء كتيبة جديدة من متحدثي التلفزيون الذين يقولون كلمات نارية وبعضها يمضي كل إلى منزله دون أن يدفع ثمنا من أي نوع أو يتحمل مسئولية بأي شكل. وحتى قبل ظهور التلفزيون بهذه الكيفية فإن مجلس الحكم هذا حتى يظل مجلسا وحدويا معبرا عن آمال الأمة وطموحاتها، فإن عليه خلق حالة من التوافق الوهمي فيصير موافقة على قوائم قرارات القمة الخاضعة لأكثر الأطراف العربية تطرفا وإلا جرى الانقسام و«الشرشحة» في الإعلام فبات الأمر السهل هو الموافقة ثم بعد ذلك يذهب الجميع إلى بيوتهم، أما المتطرفون الراديكاليون فيشعرون بسعادة بالغة لأنهم أضافوا لخزائنهم قرارات جديدة.

ولكن المعضلة في كل ذلك أن الواقع الاستراتيجي والاقتصادي في المنطقة لا يخضع لأي من هذه الأوهام والقرارات، ولكن له منطقه الخاص الذي يغير أشياء كثيرة على أرض الواقع. ولما كانت القيادات العربية مشغولة بالقرارات خلال القمة، وانتصارات الصمود والتصدي والمواجهة الدائمة ما بين انعقاد قمة وأخرى، فإن أحدا لا يشغل باله بالتعامل مع ما يحدث بالفعل. ومن الجائز أن يكون حزب الله قد حقق نصرا في حرب 2006 لأنه صمد أمام الهجوم الإسرائيلي حتى ولو كنا نحتاج لتعريف دقيق لمفهوم الصمود أكثر من بقاء السيد حسن نصر الله، ومن الجائز أيضا أن تكون حماس حققت انتصارا في حرب غزة الأخيرة لأنها استمرت في إطلاق الصواريخ ولأن قادتها في دمشق وغزة لا يزالون أحياء، ولكن الحقيقة القائمة على الأرض هي أن القدس العربية كما نعرفها في طريقها إلى الانتهاء، كما أن حركة الاستيطان في الضفة الغربية في طريقها إلى الضعف. وبالتأكيد فإن مثل ذلك مسألة محيرة، فإذا كانت إسرائيل قد حظيت بهزيمة في حربين متتاليتين فلماذا يجري ذلك على الأرض، ولا يحين وقت قدوم إسرائيل طالبة للسلام.

الأخطر من ذلك كله هو أن حروبا تجري على أرض المنطقة العربية ولا نعلم عنها الكثير، وخلال الأسبوع الماضي تسربت أنباء من مصادر سودانية أن عملية عسكرية حدثت في شمال غربي السودان، حيث قامت طائرات بقصف 17 شاحنة محملة بالذخائر والأسلحة التي تم تحميلها في ميناء بور سودان، مما أدى إلى تدمير كل الشاحنات ومعها قتل 39 شخصا. وحينما قرأت القصة لأول مرة في صحيفة «الشروق» القاهرية فإن الولايات المتحدة وطائراتها هي التي قامت بالقصف، ولكنه لم تمض أيام إلا وأعلنت شبكة تلفزيونية أمريكية أن إسرائيل هي التي قامت بالعملية كلها.

لاحظ هنا أن هذه العملية جرت في شهر يناير الماضي، وأن العملية كانت من الاتساع بحيث يستحيل جهل الحكومة السودانية بها، ومع ذلك جرى التواطؤ الضمني بين الحكومة السودانية والحكومة الإسرائيلية على الصمت إزاء حادث اعتداء واضح على السيادة السودانية التي كان الرئيس السوداني عمر البشير مشغولا بها بحماس كبير طوال الفترة الماضية، وعقدت الأمة من خلال الجامعة العربية عزمها على حماية الرئيس السوداني والدفاع عن سيادته طالما أن الأمر يخص أهل دارفور، أما وأن الموضوع يخص إسرائيل فطالما لم يعلن شيء، ولم تحدث الفضيحة، فإن الشرف لا يزال مصونا. ولاحظ أيضا أن ذلك تم بعد أن تولى أوباما السلطة في الولايات المتحدة، وهو ما يعني أن الأسنان الأمريكية التي جرى سنها تجاه الشرق الأوسط خلال الأيام الأخيرة من إدارة جورج بوش لم تكن نوعا من تجاوزات إدارة راحلة. ولاحظ ثالثا أن مثل هذه العمليات السرية والتي جرى فيها التواطؤ بالصمت حدثت من قبل على الأرض السورية، حينما تم قصف ما اعتبرته إسرائيل مفاعلا نوويا في طريقه إلى البناء، وسواء كان حقيقيا أو غير حقيقي فإن مبنى ما تمت تسويته بالأرض على الأرض الشقيقة.

ولا أدري شخصيا عما إذا كانت القمة العربية سوف تعطي اهتماما للغارة على السودان، والمدى الذي ذهب إليه الاتفاق الأمريكي الإسرائيلي في متابعة حالة التسلح الذاهبة إلى غزة، أم أن القمة سوف تعطي اهتماما أكبر لقرار المحكمة الجنائية الدولية لأنه اعتداء على سيادة القيادة السودانية، أما سيادة السودان ذاتها وواجبها في الدفاع عن نفسها وأراضيها فتلك ربما تؤجل قليلا حتى يتم إعداد العدة والتخلص من مشكلات دارفور والجنوب. ولكن ما يمكن التأكد منه هو أنه لا توجد أمة تستطيع الحياة والنمو والتطور دون مناقشة قضاياها بصراحة وواقعية، ولو أن الرئيس السادات اتبع كلام كثيرين بعد حرب أكتوبر 1973 لكانت الأرض المصرية لا تزال محتلة حتى الآن مع قدر غير قليل من السعادة لدى جماعة مصرية وعربية لأن النضال لا يزال مستمرا.

لقد كان لدى السادات حكمة بسيطة وهي أن تستخلص الأرض أولا، فتحرم إسرائيل من الاستيطان فيها، وتجعل الدولة الإسرائيلية أكثر انكماشا، وبعد أن تجعل العالم كله ضامنا لهذا التغير فإنك تستطيع استغلال الموقف الاستراتيجي الجديد لصالحك. مثل هذه الحكمة كانت واضحة قبل أيام من انعقاد القمة، حيث جاءت الذكري الثلاثين لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في 26 مارس، ولكن الموقف الاستراتيجي كله قد تغير ليس فقط لأن ثلاثة عقود قد مضت، أو لأن حكمة السادات لم يستمع إليها، ولكن التوجه الاستراتيجي الراديكالي العربي قد حصل على أقصى أمانيه. فقد وصلت عملية السلام إلى نهايتها، وجاءت حكومة عنصرية ونقية الصهيونية العدوانية إلى الحكم في إسرائيل، ولم يعد هناك معسكر يذكر للسلام في إسرائيل، والولايات المتحدة مشغولة عنا وعن إسرائيل بأزمتها الاقتصادية وانسحابها من العراق وأفغانستان. ولا توجد بيئة سياسية كان يتمناها الراديكاليون العرب في عباءاتهم القومية والناصرية والإسلامية مثل هذه الصورة، فقد تحققت كل الأحلام، وأصبح عليهم الآن أن يقدموا لنا صورة الصمود والتصدي والمقاومة والممانعة، ولكن نرجوهم ألا تستبدل الحروب العلنية بحروب وغارات سرية يجري التواطؤ مع إسرائيل على كتمانها، وإذا كان أنصار السلام من العرب مطالبين في السابق بالحذر من الخداع الإسرائيلي، فإن أنصار الحرب معها عليهم الحيطة أيضا حيث لم يعرف عن الإسرائيليين فضيلة الكتمان!.