كان الأمير الخطابي عروبيا وناصريا

TT

علق قارئ كريم على مقالي السابق، فكتب للموقع الإليكتروني للجريدة، معترضا على قولي: إن الزعيم الخطابي كان عروبيا وناصريا. وظن أن ذلك الوصف «تهمة خطيرة، فضلا عن كونها سبة شنيعة لأهل الريف، الذين يفخرون بأمازيغيتهم، وبانتمائهم للمغرب لا لمصر الناصرية».

وأنا إذ أشاطره الفخر بالأمازيغية، وبالانتماء إلى المغرب ـ فما أنا إلا من غزية ـ لا يسعني إلا أن أصرح بدءا بأن الوصف ليس من عندي. فالأمير الخطابي، حينما نزل بتراب مصر في مايو 1947، هو الذي رد على صحافي سأله عن سبب اختياره اللجوء إلى مصر، بقوله: «إن المرء لا يكون «لاجئا» في أرضه».

وأكثر من ذلك صراحة ما ورد في رسالة وجهها إلى الملك فاروق، أثنى فيها على ما كان يبذله العاهل المصري «في سبيل مجد العروبة ومستقبلها العظيم». وعبر عن السرور العميق «بوجودي في هذا البلد العربي، بعد غيابي في المنفى عشرين سنة بعيدا عن وطني، الذي هو جزء من العالم العربي. وقد شعرت هنا أنني حقا في وطني».

ومعلوم أن الأمير الخطابي بمجرد نزوله في مصر، التف حوله قادة النضال الوطني في أقطار الشمال الأفريقي، ونصبوه رئيسا للجنة تحرير المغرب العربي، رغبة في اكتساب مساندة جميع أقطار الشرق، وبالفعل تبنت الدول العربية المستقلة حينئذ، قضايا منطقتنا، وأصبحت الجامعة العربية تعتبر تحرير المغرب والجزائر وتونس ضمن أولويات سياساتها، مما عرض مصالح دولها ووجودها للخطر. ونص ميثاق اللجنة المذكورة، وهو يحمل توقيع الأمير بوصفه الرئيس الدائم لها، على أن «المغرب العربي جزء من بلاد العروبة».

وحينما كان الأمير يسلم بتلك المبادئ، فقد كان منسجما مع تفكير شعوب المنطقة، التي سعت إلى فرض قضيتها على أجندة الشق المشرقي من بلاد العرب، باعتباره بوابة تفتح الطريق لفك العزلة، التي ضربها الاستعمار حول بلاد المغرب. وكانت شعوب المغرب العربي ترغب في الحصول على دعم معنوي ومادي كانت في حاجة إليه، ولهذا سعت بكيفية حثيثة إلى الحصول على دعم الأشقاء المشرقيين وكان لها ذلك.

والخطابي مثل المغاربة جميعا، إلا من يظنون اليوم أنهم يكتشفون المغرب لأول مرة، لا يشعرون بالغربة في محيط عربي، بل إنهم يحتفظون فيه بكل خصوصيتهم، كما حدث دائما في التاريخ. ولا يوجد من بينهم من يشعر بغير الافتخار بتلك الخصوصية، ولا يوجد من لا يتمسك بها أشد التمسك، منذ أن قال القائل: إنهم ذيل ولكن لطاووس.

ويمكن القول إن المغاربة عروبيون بقدر ما في العروبة من الإسلام. وقد سجل ذلك منذ سبعين سنة المفكر أمين الريحاني، حين لمس أن عروبة المغاربة مستمدة من الإسلام. وحينما تأمل في التمازج بين العرب والبربر القائم في بلاد المغرب الأقصى، استنبط أن الأمر يتعلق بعرب مغاربة وبمغاربة عرب. وفسر ذلك بأنه يعني من جهة أولئك العرب الذين جاءوا مع الفتح ثم على أفواج، واستقروا في البلاد، واكتسبوا مواطنة عمرت عدة قرون، ومن جهة أخرى سكان أصليون تعربوا ثقافة ولسانا وأدبا. ويمكن أن نضيف إلى هذا، أنهم مع اختيار العربية لسانا للتواصل مع المحيط العربي، لم يفرطوا في ألسنتهم المتوارثة، ولم يوجد ما يحول دون ذلك، بل إن المغرب اليوم بصدد الإقبال على إنعاش اللسان الأمازيغي، ثقافة وتعبيرا، بكل أساليب التعبير. كان الريحاني، أول مثقف مشرقي زار المغرب في الثلاينيات بعد شكيب أرسلان، وفاطمة رشدي، واكتشف الجميع أن هناك عربا آخرين لهم كيانهم الخاص، ولكنهم يمثلون إغناء لعالم العروبة، ما دامت العروبة ليست مجرد نداء للعرق، وإنما رابطة ثقافية وسياسية، أساسها الرابطة الدينية.

وبهذا المفهوم كان الخطابي عروبيا. وحينما قامت ثورة الضباط الأحرار في مصر، وجد الخطابي في الحركة الجديدة ما يحمسه لها، باعتبارها قوة مضافة إلى الحركة المناهضة للاستعمار. وقد تقبل المغاربة أفكار الوحدة العربية بارتياح، ولكنهم لم ينضموا إلى نظرة مركزية شابت بعض دعاتها، فابتعدوا عن طابعها الشوفيني، وما بدا لهم فيها من نزوعات هيمنية في بعض المواقف، ومن هنا وقعت احتكاكات بين الوطنية المغربية وبين الناصرية في الخمسينيات، ثم بعد الاستقلال.

لقد اصطدمت الوطنية المغربية مع الناصرية، لأن هذه جنحت إلى تفضيل تصوراتها القائمة من حيث البناء السياسي على فكرة الحزب الوحيد، واحتكار القطاع العام للمبادرة الاقتصادية، وفرضت بعض التوجهات في السياسة الخارجية، خاصة على الصعيد العربي.

وهناك تفاصيل موثقة في كتاب لأحد ضباط المخابرات المصرية، عبد الحميد الديب: «عبد الناصر والثورة الجزائرية»، توضح كيف أن الأجهزة المصرية اصطدمت مع الحركة الوطنية المغربية، بسبب الرغبة في التدخل المباشر لتوجيه النضال المغاربي في خدمة التصورات الناصرية.

ويسجل التاريخ أن الأمير الخطابي، كان مسايرا لتلك التصورات باقتناع، ولهذا وقعت له بدوره احتكاكات مع مغرب ما بعد 1956. فقد دعا إلى إلغاء الأحزاب السياسية، واعتبر على الدوام أن استقلال المغرب وتونس مؤامرة فرنسية. وفي مراسلاته مع عدة جهات في المغرب، نشر بعضها، ما يفيد أنه كان مقتنعا شديد الاقتناع بالتوجهات الناصرية في تلك المرحلة من تاريخ المنطقة.

ومن تلك المراسلات واحدة موجهة إلى الرئيس جمال عبد الناصر بتاريخ 22 يناير 1959 نشرها د. زكي مبارك، في كتابه «محمد الخامس ومحمد بن عبد الكريم الخطابي وإشكالية استقلال المغرب»، تحدث في مستهلها عن «الحالة الراهنة الداخلية والخارجية في المغرب العربي، وهي تنذر بالخطر على الأمة العربية وعلى صراعها القومي التحرري». وحذر الأمير من سياسة المغرب وتونس حيال الجامعة العربية، لأنها تنطوي على «بث الشكوك وسوء الظن بين طرفي الأمة العربية المشرق والمغرب، بإثارة النعرات الإقليمية والعنصرية والسياسية، ومهاجمة الجمهورية العربية المتحدة باعتبارها أول تطبيق عملي حديث لعقيدة القومية العربية، باعتبارها قاعدة هذه القومية المتحررة». وطالب بجملة أمور منها «إعادة القطر المغربي إلى دائرة قوميته العربية الحرة بأسرع ما يمكن، وبكل الوسائل الصريحة المباشرة». وكان مؤمنا بحتمية قيادة عبد الناصر.

وفي رسالة منه إلى الملك محمد الخامس بتاريخ 13 يناير 1960، وردت مطالب سياسية تهدف إلى الأخذ بأساليب التقدم والنهضة، منها «إلغاء الأحزاب السياسية كلها في المغرب». وهذا من أسس الناصرية. وقد نجحت تلك الدعوة في الجزائر، حيث أنشئت جبهة تحرر الوطني الجزائري، بمباركة من المخابرات المصرية، وذلك منذ يناير 1954، أي قبل أن تبرز التناقضات السياسية التي عنت بعد استقلال المغرب، وهي ذات مشارب متنوعة.

وبسبب ذلك التناقض سلطت الأجهزة الناصرية حملة شعواء على تونس والمغرب. ثم شملت الحملة مجموع الحركات الاستقلالية في المغرب العربي، حينما التأمت الأحزاب المغاربية في مؤتمر طنجة أبريل 1958، لوحدة المغرب العربي، الذي ما زال حتى الآن حدثا سياسيا مرجعيا، بينما اعتبر في أجهزة الناصرية تعبيرا عن الخيانة والانفصالية، وصيغة لاستدراج أقطار المنطقة إلى لعبة الأحلاف، التي كان يحيكها الغرب.

إن العروبة وجدان وموقف مصيري، والناصرية موقف سياسي كان له ما يبرره وليس التذكير به شتيمة ولا تهمة خطيرة.