اختلال العالم؟

TT

أمين معلوف. كاتب وروائي لبناني، مقيم في فرنسا، ويكتب بالفرنسية، له عدة مؤلفات. ترجمت إلى عدد كبير من اللغات، ونالت إحداها (صخرة طانيوس) جائزة غونكور الفرنسية الشهيرة. وتتميز روايات و مؤلفات أمين معلوف بالتركيز على ما جمع أو فرق، عبر التاريخ، بين أبناء و حضارات، ضفتي البحر المتوسط، وبين المسلمين والغرب، من خلال أحداث تاريخية كبيرة أو صراع الحضارات. ومن أشهر كتبه «الحروب الصليبية في نظر العرب» و«سمرقند» و«ليون الأفريقي» و«الهويات القاتلة».

إلا أنه هذه المرة، وبعد ثلاث سنوات عن صدور آخر كتبه، أطل بـ«محاولة»، جعل عنوانها «خلل العالم». وهي أطروحة سياسية واقتصادية عالمية شاملة، استمد معطياتها من التحولات والأحداث الدولية الكبرى، التي مر بها العالم في العقود الأخيرة، والتي دفعت بالعالم و بالبشرية في طرق مسدودة أو نحو آفاق مجهولة.

يقول أمين معلوف: إن هذه السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين تؤشر على عدة علامات للخلل العالمي. منها: الخلل الفكري الشمولي، الذي يجعل أي تعايش بين الثقافات صعبا، وأي حوار بين الحضارات مستحيلا. و يتساءل: هل بلغت البشرية مرحلة «اللاكفاءة الأخلاقية»؟

يحاول الكاتب، في هذا الكتاب، أن يفهم لماذا وصل العالم إلى حيث هو، اليوم. وكيف يمكنه الخروج من المأزق الذي وقع فيه؟ ويقول بأن المشكلة ليست مشكلة «صراع حضارات» بل مشكلة «فراغ كل الحضارات من محتواها»، وعلى الأخص الحضارتان اللتان ينتمي إليهما الكاتب، أي الحضارة العربية والحضارة الغربية. فالغرب، في نظره، خان قيمه، والعالم العربي علق في مأزق تاريخي.

إلا أن الكاتب، بعد هذا التشخيص المقلق لما يعاني منه العالم من خلل، يفتح نافذة على الأمل. فهو يعتقد بأن العالم، بعد أن وصل إلى ما وصل إليه، سوف يضطر إلى إيجاد رؤية مدركة و مسؤولة للهويات والمعتقدات والفروقات بينها، ولمصير الكرة الأرضية، المشترك بين البشر.

يبدو العالم في نظره «داخلا في القرن الجديد بدون بوصلة». وأنه «يعيش خللا فكريا وماليا ومناخيا وسياسيا وقيميا». وهو يخشى على «مصير الحرية» المهدد بالعنف والعنصرية واليأس، «وذلك بالرغم من كل الإنجازات الكبيرة التي حققها الإنسان ليصل إلى ما وصل إليه في مجالات الحرية و الديموقراطية و احترام حقوق الإنسان».

لقد وصل العالم، في نظره، أمام تحديات وأخطار كبيرة لم يسبق للبشر أن واجهوها من قبل. وإن تجاوزها يتطلب تعاون كل الدول و الشعوب. وهذا ما لا يبدو محققا أو ممكنا، اليوم.

لقد سقطت الشيوعية والاتحاد السوفياتي معها، وانتصرت الديموقراطية الرأسمالية الليبيرالية بزعامة الولايات المتحدة، التي أضحت الدولة العظمى الأولى. ولكن بعد مرور أقل من عشرين عاما، أصيب هذا النظام المالي والاقتصادي الليبرالي بأزمة لا يعرف كيف سيخرج منها. ولقد اتبعت الولايات المتحدة بعد تفردها بزعامة أو ريادة العالم، سياسة أوصلتها إلى حيث وصلت في العراق وأفغانستان وباكستان، وإلى حالة عداء مع دول وشعوب عدة، في مقدمتها العالم الإسلامي.

أما في العالمين العربي والإسلامي فإن المشهد الحالي لا يبشر، في نظره، بأي خير أو تقدم بل ينذر باضطرابات وحروب أهلية واصطدامات مع الغرب، من جراء بروز التيارات و النزاعات الدينية و المذهبية، وفشل التجارب الديموقراطية.

و يرى أمين معلوف، أن الحوار بين الشرق المسلم والعربي والغرب الأميركي ـ الأوروبي، يصطدم بأفكار مسبقة. فالمسلمون في نظر الغربيين «غير مؤهلين لتبني القيم الغربية»، والغربيون في نظر المسلمين «هم المستعمرون و الأعداء التاريخيون».

ويتوقف الكاتب عند الأزمة المالية والاقتصادية الأخيرة ليقول بأن إطلاق الليبيرالية الرأسمالية بدون ضوابط، سوى قانون المنافسة واقتصاد السوق، أوصل إلى هذه الكوارث وإلى انهيار مصارف كبرى في العالم عمرها عشرات بل مئات السنين.

ويتطرق إلى ظاهرة سياسية مقلقة، أطلق عليها اسم «الشرعيات الضائعة»، منطلقا من «الأصوات القليلة التي أعيد فرزها في فلوريدا عام 2000، وكرست فوز بوش بالرئاسة في الولايات المتحدة، وما ترتب عن فوزه من تحولات دولية كبيرة. فهل من المنطق أن يترك لبضعة أصوات من الناخبين في فلوريدا حق تقرير مصير العالم»؟

مصادر أو مرتكزات الشرعية في نظره هي التي غيرت مجرى التاريخ، ولا بد من إيجاد مرتكزات جديدة لشرعية الحكم. لا سيما في الدول الكبيرة، التي تحرك العالم وتؤثر على مصائر الشعوب.

ويتحدث طويلا عن التجارب السياسية، التي مر بها العرب في النصف الثاني من القرن العشرين، ولا سيما المد القومي العربي والناصرية والبعث واليسار والمقاومة، وفشلها في التغلب على التحدي الإسرائيلي، ليخلص إلى القول بأن ذلك مهد لصعود التيارات والدعوات الدينية الإسلامية السياسية، المعادية للغرب.

ويرى الكاتب أن الخلاص هو في «العودة إلى القيم القديمة أو التقليدية» بل «في اختراع قيم جديدة». ليس في «العودة إلى الماضي» بل في «بناء مستقبل جديد». مستقبل يقوم على نوع من العلاقات الجديدة بين الدول، وعلى إدارة جديدة لموارد وخيرات وثروات الكرة الأرضية. وعلى قيم مشتركة بين الشعوب والثقافات. وعلينا التخلي عن الشرعيات القديمة والتطلع إلى «شرعيات فوقية»، تمكننا من إنقاذ بيئتنا واستثمار ثرواتنا بحكمة والمحافظة على عالمنا. «فمعركة البشرية ضد تلوث الجو والبيئة وشح المياه وحرارة المناخ ونضوب مصادر الطاقة والحد من أسلحة الدمار الشامل، إنما هي معركة ومسؤولية كل الدول وكل الشعوب وكل إنسان».

أما «القيم» التي يمكنها أن تجمع بين البشر، لا أن تفرقهم وتضادهم، فهي في نظره «القيم الثقافية». صحيح أن اندريه مالرو، قال ـ أو نسب إليه القول ـ بأن «القرن الواحد والعشرين سيكون قرن الأديان أو لا يكون». ولكن الدين ـ يقول معلوف ـ يمكن أن يهدي البشر كما يمكن للبشر أن يستخدموا الدين ضد بعضهم البعض.

و في ختام كتابه يقول الكاتب: إن العالم ليس سائرا نحو نهايته ولكن نحن البشر مسؤولون عن مصير أفضل أو كارثي له، عن تصور هذا المصير وبنائه.

ويخلص إلى إعلان تفاؤله بمصير البشرية للأسباب التالية:1ـ إن التقدم العلمي مستمر ومتسارع وسيساعدنا على اكتشاف حلول للمشاكل والتحديات.2ـ إن الشعوب المتخلفة تخرج تدريجيا من تخلفها. 3ـ التجربة الاتحادية الأوروبية التي يجب أن تتمثل بها الشعوب التي تحاربت و تخاصمت لتتعاون و لتبني مصيرا موحدا. 4ـ انتخاب باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة، الذي يبشر بعودة الولايات المتحدة إلى مكانتها ودورها في العالم، دور لنكولن وجفرسون وفرنكلان.

فالعالم بحاجة إلى نظام اقتصادي جديد وإلى نظام علاقات دولية جديد، وإلى رؤية جديدة للسياسة وللعمل وللاستهلاك ولمفهوم التقدم والهوية والتاريخ والدين والثقافة.