المصالحة.. عنت البعث وعنت الاجتثاث!

TT

أعوام مرت والدعوة إلى المصالحة، في السياسة العراقية، تُسمَع ولا تُرى. تُعلَن لترد عليها عصائب البعث بشعار وهتاف تحرير العراق، وشطب كل ما استجد بعد التاسع من نيسان (أبريل) 2003، وإعادة البلاد لسلطتها مع الاعتذار! وبالمقابل هناك إصرار على قانون الاجتثاث، وحصر البعثيين بتسمية الصداميين كافة، عندما تخدم هذه التسمية تسقيط قائمة انتخابية بعينها! وإذا سألت رافضي المصالحة، الواهمين بالعودة إلى الحكم، عن مسؤوليتهم في ما وصلت إليه البلاد من انحطاط، في عزِّ قوامتهم عليها، يقولون: أممنا النفط، ورفهنا الشعب! وكأنهم لم يفرطوا بالدماء وبالثروات وبحدود العراق (اتفاقية 1975 مع إيران مثلاً)، حتى غدت البلاد الغنية فقيرة، يتعطف على مرضاها فاعل خير نرويجي أو استرالي، وتستعطف البلدان القريبة والبعيدة للتساهل في الديون!

ينم عنت البعثيين عن فقدان ذاكرة: ألم يقتلوا رفاقهم، في مسلخ أم العظام ببغداد! ويعدموا العشرات من كبار قادة الجيش وشجعانه، لشبهة مؤامرة، أو نكتة مست عظمة (القائد الرمز)، ويهتكوا حرمة العراقيين ببناتهم وزوجاتهم، في مسلخ قصر النهاية، وحاكمية المخابرات العامة! ألم يعيشوا هم أنفسهم فزعين من وشاية لدى أجهزتهم الأمنية، ومن حاشية أمين سر قيادتهم! يكابرون وكأنهم لم يهينوا الجيش العراقي، ويقضوا عليه، حتى وصل الحال إلى تقبيل الجندي العراقي قدم الجندي الأميركي! بعد أن صفت الرتب العسكرية الرفيعة على أكتاف عزة الدوري، وعلي حسن المجيد، وحسين كامل، ومن قبل على كتفي المهووس بالقتل ناظم كَزار! وهل لصدام حسين حق في منح نفسه أرفع رتبة في تاريخ جيوش العالم.. مهيب!

ولا أحسب مَن يقرأ شهادة سجينة من سجينات قصر النهاية، ابتسام رومي، تحت عنوان «طوارق الظلام» لا يشمئز من مفردة اسمها البعث! فقاتل الفتى فاضل ابن الخامسة عشرة، والمغتصب الفتاة بالعمر نفسه أصبح سفيراً، وكتب مذكراته، ليظهر نفسه ولياً صالحاً لا قاتلاً ومغتصباً! وتأصيلاً للقسوة طُلب من باحث عراقي تصنيف كتاب يلمع فيه سيرة والي العراق الحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ). هذا ما أفادني به طبيب موصلي كان المسؤول الأول في الطبابة العسكرية للجيش العراقي. حصلتُ على الكتاب ووجدت الحجاج فيه الضحية وضحاياه هم القتلة! ومعلوم أن دموية هذا الوالي متفق عليها لدى المؤرخين جميعاً، اقرأوا سيرته لدى المسعودي المتشيع (ت 347هـ)، وابن الجوزي الحنبلي (ت 597هـ)، وابن الأثير الشافعي (ت 630هـ) وغيرهم!

ومع ذلك يمكن تفادي وتجاوز التاريخ المفزع، برجوع قادة البعث إلى الاعتراف بما اقترفته أيديهم، ولو تقدموا باعتذار يُطيب النفوس، وبكلمة حَسنة لصحت الدعوة إلى مبدأ: «عفا الله عما سلف»، ذلك ما يطلبه نائب الرئيس طارق الهاشمي حرصاً وأمانةً! ألم يسمع أولئك، أثناء حملتهم الإيمانية، قول المولى: «فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه ولي حميم» (فصلت 33). إلا أنهم بدلاً من تطييب خواطر ذوي الضحايا تجدهم يهددون بالعودة، في حزب أسموه «العودة» كي يقطفوا الرقاب، ويبددوا الثروات من جديد!

يتحمل البعث الرسمي كل تلك المواجع، حتى زحف الجيوش الغازية، سواء لتحرير الكويت (1991) أو لإسقاط النظام تحت حجج واهية، وهذا الكلام لأحد قادتهم السابقين تايه عبد الكريم، تحدث من على شاشة «البغدادية» بألم، قائلاً: «الحزب انتهى منذ 1973»! حيث الفصل الدموي بما سمي بمؤامرة ناظم كزار (قُتل 1973). ولا أعتقد هناك عراقي حريص على دمل جراح البلاد لا يتعاطف مع ما سرده عضو القيادة القطرية المذكور! وهنا تصبح «عفا الله عما سلف» مصفاة للنفوس! ومَنْ لا يتعاطف مع سلوك عبد الخالق إبراهيم السامرائي (أعدم 1979)، الذي أراد للبعث أن يكون نعمة لا نقمة؟!

ومع كل الجروح البليغة التي تركها البعث، فليس لأحد غلق الباب، أمام جمهرة البعثيين، سواء تبعّثوا عقيدة أم مصلحة! فما نراه لا يجتمع الضدان: مصالحة واجتثاث! وكم من بعثي دفعته تلك المفردة، إلى حمل السلاح والتمهيد لفلول «القاعدة»! أرى لو فتح قادة المعارضة السابقون، والسلطة الحاليون، باب المصالحة من أول يوم دخلوا فيه بغداد، واستوعبوا رتباً عسكرية، وخبرات متراكمة، وأعلنوها: «عفا الله عما سلف»! ومَنْ له حق دم أو مظلمة يتقدم بها إلى المحاكم لينال حقه! لا أن يُحاكم رئيس النظام ويُعدم على قضية واحدة، عمقت النزعة الطائفية إلى حدٍ بعيد! ويُطارد كبار الضباط في عمليات اغتيال معروفة الجهة التي تمولها، ومَنْ لم يُقتل حمل متاعه وهاجر! أقول: يصعب تحقيق مصالحة بين عنتين! والسلطة بيدها المصالحة، الفعل لا القول، والاجتثاث على حد سواء!.

[email protected]